• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانيتين

الأستاذ جمعة أمين

بسم الله الرحمن الرحيم

يقول ربنا عز وجل { لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وألئك هم المفلحون أعد الله لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم }[التوبة : 88، 89 ]

 

ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو سعيد الخدرى رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ألا أخبركم بخير الناس وشر الناس إن خير الناس رجل عمل في سبيل الله على ظهر فرسه أو ظهر بعيره أو على قدمه حتى يأتيه الموت وإن شر الناس رجل يقرأ كتاب الله تعالى لا يرعوى لشيء منه )) رواه النسائي .

 

ويقول الإمام الشهيد حسن البنا :(( لقد قام هذا الدين بجهاد أسلافكم على دعائم قوية من الإيمان بالله والزهادة في متعة الحياة الفانية أو إيتاء الخلود .. والتضحية بالدم والروح والمال في سبيل مناصرة الحق وحب الموت في سبيل الله والسير في ذلك كله على هدى القرآن الكريم .

 

فعلى هذه الدعائم القوية أسسوا نهضتكم وأصلحوا نفوسكم وركزوا دعوتكم وقودوا الأمة إلى الخير والله معكم ولن يتركم أعمالك )) [ رسالة المؤتمر الخامس ] .

 

ويقول : (( أيها الإخوان : إن الأمة التي تحسن صياغة الموت وتعرف كيف تموت الموتة الشريفة يهب الله لها الحياة العزيزة في الدنيا والنعيم الخالد في الآخرة وما الوهن الذي أذلنا إلا حب الدنيا وكراهية الموت فأعدوا أنفسكم لعمل عظيم واحرصوا على الموت توهب لكم الحياة ))[ من رسالة الجهاد ] .

 

توطئة

لم كانت التضحيات ؟

إذا كانت التضحية هي بذل كل ما يملك وما نستطيع من أجل حماية الدين والوطن والأرض والعرض والأمة الإسلامية .. وإذا كان صاحب كل مبدأ وقيمة لا يمكن أن تبقى مبادئه أو تستمر إلا إذا دعا إليها وضحى من أجلها أين كان هذا المبدأ وهذه القيمة ... فما بالك بدين هو الخاتم الذي أتم الله به النعمة { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } المائدة :3] ألا يستحق هذا الدين أن نضحي بكل ما نملك في سبيل نشره وحفظه ؟ ونحن لا نتجنى إذا قلنا إن العالم الغربي أعلن العداء للإسلام بعد أن كان مستترا بل بعد سقوط الشيوعية وانتهائها لم يجد له عدوا إلا الإسلام فماذا عسانا أن نفعل حين تنتهك الحرمات وتداس المقدسات وينال من الأعراض وتلتهم الأوطان ؟

 

ماذا عسانا أن نفعل بعد أن أصبح واضحاً لكل ذي عينين أن العالم الإسلامي يعانى من عدو شرس يجرده من كل قوة سواء أكانت مادية أو معنوية ويعاونه على ذلك نظام عالمي جديد يكيل بمكيالين ويزن بميزانين ميزان يحقق لهذا العدو أسباب القوة والسيطرة السياسية والاقتصادية التي تمكنه من تحقيق مأربه وأغراضه وأهدافه وميزان آخر يعمل على إضعاف تبعيتنا وانسلاخنا من هويتنا وانتمائنا الإسلامي .

 

فالعدو الصهيوني ومعه الصليبية العالمية والعلمانية الكارهة للدين المحاربة له تجعل من إسرائيل رأس الحربة التي توجهها ضد كل ما هو إسلامي باسم هذا النظام وتواصوا بذلك بالرغم من اختلافهم فيما إلا أنهم يتحدون جميعا ضد الإسلام وقيمه ونظمه ومنهاجه .

 

وليس هذا الذي نقول استنتاج عقل وإن كان الأمر لا يحتاج لهذا الاستنتاج بعد أن صرح قادة هؤلاء الأعداء بذلك جهارا نهارا والواقع المؤلم يشهد بذلك في كل ساعة من ساعات النهار والليل على السواء لذلك فإننا نتساءل ألا يحتاج ذلك إلى تضحية بكل عزيز وغال لنعيش كراما أو نموت أعزة ؟ لنصون العرض والأرض والوطن والدين .

 

والتضحية التي نقصدها ليست وقفا على النفس بل الأمر يبدأ ببذل الطاقة والتوسع لفهم للدين دقيق نعرف به ربنا ونتعرف به على أنفسنا ونحدد به رسالتنا في الوجود ونسخر به الكون كله لتنعم الدنيا بمنهاجنا ثم معرفة بالعدو وإمكاناته والإعداد له لنتصدى لمكره ودهائه رداً على افتراءاته وتفنيدا لادعاءاته وتوضيحا لشبهاته فكرا بفكر وقولا بقول ولا نقف عند حد الكلام بل نقدم الأنموذج الفذ فردا وأسرة ومجتمعا ليكون الكلام سلوكا والعلم عملا واقعا معاشا وكل ذلك لا يتحقق إلا بتضحيات بالوقت والمال والجهد بل والنفس أيضا ولذلك لا يجوز أن يصرف معنى التضحية على النفس والمال فحسب فكون بذلك قد ضيقنا واسعا بل إن التضحية كما نقول الإمام الشهيد حسن البنا عليه الرضوان : (بذل النفس والمال والوقت والحياة وكل شئ في سبيل الغاية وليس في الدنيا جهاد لا تضحية معه ولا تضيع في سبيل فكرتنا تضحية وإنما هو الأجر الجزيل والثواب الجميل ومن قعد عن التضحية معنا فهو آثم { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم } التوبة :12 ] { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم } التوبة 24] { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأً ولا نصب } التوبة 120 ] { فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا} الفتح : 16] وبذلك نعرف معنى هتافنا الدائم (الموت في سبيل الله أسمى أمانينا ) .

 

فالتضحية ألوان متعددة وأشكال متنوعة بالمال والوقت والجهاد والأهل والعشيرة بل والنفس في سبيل نشر الدعوة وإقامة الدين وحفظه وهكذا أقيم المجتمع المسلم الأول على أكتاف رجال ضحوا بكل أنواعها إنفاقا للمال ومفارقة للأهل والولد وبذل للوقت والجهد وتضحية بالنفس وتبعهم بإحسان رجال واصلوا المسيرة من التابعين وتابعيهم وإلى يومنا هذا بل وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها فلن تخلو الأرض يوما من هذا الصنف المخلص والمخلص ليكونوا جند الله على أرضه وتتحول بهم المبادئ والقيم والعقائد واقعاً على الأرض .

 

القيم والواقع

إن المبادئ السامية تظل مثلا عالية في عالم الذهن حتى يوجد من يمثلها في عالم الواقع وكم من إنسان يتصور هذه المبادئ في ذهنه ويتحمس للدفاع عنها في تخيله ويراها هي الحق كل الحق حتى إذا تحول إلى عالم الواقع جبن عن الدفاع عنها وضعف عن تمثيلها بنفسه وفضل مداراة الناس بما هم عليه من باطل على مجابهتهم بما هو عليه من الحق .

 

إن أهل الباطل يتفانون في الدفاع عن باطلهم ويغتنمون الفرص المناسبة للهجوم على المعتقدات التي يرون أنها تهدد وجود باطلهم الذي يتوقف وجودهم عليه وتتمثل زعامتهم في علو رايته وقيام أمره فيضحون بكل عزيز لديهم ليصدوا عن السبيل ويبغونها عوجا بشراستهم المعهودة وحروبهم المعروفة وهم يقولون :{ أجعل الآلهة إلها واحداً إن هذا لشيء عجاب وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق أؤنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكرى بل لما يذوقوا عذاب } [ص 5-8] أفليس أولى بالذين يقولون ربنا الله ثم استقاموا أن يضحوا بكل ما يملكون من أجل الحق الباقي ببقاء الدنيا وما بعدها ليعيشوا أعزة في دنياهم منعمين في أخراهم { تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم } [فصلت 3. - 32] لأنهم عاشوا على لا إله إلا الله محمد رسول الله وماتوا عليها وفي سبيلها جاهدوا وعليها لقوا الله تعالى فصنع خير أمة لأنهم { رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا } [الأحزاب : 23].

 

رجال العقيدة والتضحية

إن عقيدة التوحيد هي صانعة الرجال الذين ينفقون في سبيلها الأموال ويقولون : أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالا ويضحون بأنفسهم ويقولون فلا نامت أعين الجبناء إنهم الرجال الذين يرجون تجارة لن تبور يقبلون على الموت وهم يقولون : غدا نلقى الأحبة محمدا وصحبه أنشودتهم هبي ريح الحنة هبي .

 

وسل التاريخ عنهم قبل المصطفي علية الصلاة والسلام وبعده سل عن الذين اصطفاهم الله من بين خلقه من النبيين والرسل الكرام سل الكرام سل عن إيمانهم ومواقفهم وثباتهم وتضحياتهم سله عن زكريا ويحيى وعيس وإلياس وإبراهيم وموسى سل عن أصحاب الأخدود (النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود } [البروج 5-6] وماذا صنعوا ؟ وكيف ضحوا ؟ وتأمل حال سحرة فرعون وكيف صنعت عقيدة التوحيد فيهم ؟ وهم الذين ما عرفوا لهم قبلها ربا إلا فرعون فأقسموا بزته واحتموا بقوته وافتقروا إليه فلما دخل الإيمان قلوبهم صاروا رجالا فضحوا بكل ما يملكون وما تصبوا إليه أنفسهم وهانت عليهم أرواحهم فما ووهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا .

 

وسل التاريخ عن ياسر وعمار وسمية وبلال وصهيب وخباب وغيرهم الكثير رجالا كانوا أم نساء شبابا أم شيبة سل عنهم في بدر وأحد وحمراء الأسد يوم قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ويوم تحزب الأحزاب { ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليماً } الأحزاب 23 ].

 

وما حدث في هذه الغزوات من المواقف الإيمانية والتضحيات البطولية حدث مثلها في اليرموك وحطين وعين جالوت والقادسية وغيرها من المواقف والمواقع التي سجلها التاريخ قديماً وحديثاً لرجال العقيدة في فلسطين والقنال والبوسنة والهرسك والشيشان وكوسوفو في كل أرض يحميها رجال العقيدة فإنك تجد صورا من التضحيات الفريدة والبطولات النادرة .

 

التضحية دليل صدق وإخلاص

فالتضحية من المواقف الإيمانية التي هي دليل صدق وإخلاص وثبات على دين الله وإعزاز لراية الله إنها مواقف غالية سامية عزيزة وببركة هذه المواقف تفتح حصون وتسقط مدائن وتهزم جيوش الكفر المتكاثرة ويتنزل نصر الله عز وجل على النفوس المؤمنة هذه المواقف الإيمانية يحبها الله عز وجل ويحب أهلها والموقفين إليها إنها تشهد للمؤمنين بقوة الإيمان ومحبة الرحمن .

 

والموفق إلى هذه الواقف الكريمة الشريفة قليل لأن المؤمنين قلة والمضحون أقل { وقليل من عبادي الشكور } سبأ: 13] ولكن ببركة هذا القليل ينتصر حزب الله وترفع رايته .

 

والصحابة رضى الله عنهم هم الأمثلة الصادقة والنماذج الفريدة لأنهم أولى الأولياء بمواقف الرجال بعد الأنبياء وهذا شاهد قوى على قوة يقينهم وعظيم صبرهم وبركة جهادهم وصغر الدنيا في أعينهم وعظم الآخرة عندهم لأنهم آمنوا بما أنزل على محمد صلى الله ليه وسلم وهو الحق من ربهم وعلموا أن سلعة الله غالية تستحق التضحية .

 

فالإسلام يعلمنا ألا نعز شيئا على الله عز وجل فلا نبخل بشيء نبذله لله عز وجل فمحبة المؤمنين لله عز وجل تملأ قلوبهم وتحرك جوارحهم وتتضاءل أمام هذه المحبة محبة الآباء والأبناء والزوجات والأموال قال تعالى { قل إن كان آباؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدى القوم الفاسقين } التوبة 42] وقال النبي صلى الله عليه وسلم ((لا يؤمن أحدكن حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين )) وبهذه المحبة تهون التضحيات .

 

فهذه المعاني الإيمانية كيف تستقر في القلوب وتعيها النفوس إذا لم ير المؤمنون أمثلة حية أمامهم تترجم هذه المحبة إلى واقع عملي ومواقف إيمانية يضحي فيها المؤمن بكل ثمين وغال ويظهر فيها شرف الإيمان ومحبة الرحمن عز وجل وإيثار أمره وشرعه على طبائع النفوس البشرية ومن أولى بهذه المواقف الشريفة من الأنبياء الكرام وأصحاب النبي محمد عليه الصلاة والسلام ولذلك رأينا صور التضحيات متمثلة فيهم ومتجسدة في أعمالهم وأقوالهم ومواقفهم لأنهم أصحاب مبادئ وقيم فمن أراد أن يستعيد مجد الأمة وشرفها وعزها وعزتها لابد وأن يحذو حذوهم ويسير على طريقهم إيمانا وحبا وتضحية في سبيل إعلاء العقيدة وتطبيق الشريعة وتعميق الأخلاق لنستعيد مجد خير أمة أخرجت للناس .

 

وإذا تحدثنا في الصفحات التالية عن ركن التضحية فلسنا بمعطيه حقه فليس الفرض من هذه الصفحات تعريف التضحية من الجانب النظري وإن كنا قد فعلنا كما أننا لا يكون مجلدا من المجلدات وإنما ركزنا مع أنواع من التضحية نحسب أنها الأهم وهي التضحية بالعلاقات الاجتماعية والتضحية بالوقت والجهد والتضحية بالمال والتضحية بالنفس وإن كنا قد عرجنا بإيجاز على أنواع أخرى ولكن التركيز واضح على الجانب العملي والنماذج المضحية والأثر التربوي لغرس هذا الركن في قلوب أتباع محمد صلى الله عليه وسلم لتهون عندهم الحياة في سبيل المبدأ والعقيدة والقيمة .

 

فضلا عن كيفية تحقيق هذا الركن الركين بالمجاهدة مع النفس ونزع الهوى من القلب وترسيخ الإيمان حتى تصبح الآخرة أكبر همنا وغير ذلك من الأمور التي تجلى حقيقة هذا الركن .

أضف تعليقك