بقلم: أحمد أبورتيمة
يحسب لمسيرة العودة بعد أيام من انطلاقها أنها أعادت تصحيح كثير من الأشياء، لم تعد إسرائيل الدولة الديمقراطية التي تحارب مجموعات مسلحةً في غزة، بل رأى العالم صورة شعب حي يناضل من أجل حريته وكرامته في مواجهة دولة أسست من أول يوم على الاستيطان والإحلال والاضطهاد العنصري، تذكر العالم بعد أن أشغلته الأحداث الكثيرة حقيقة المشكلة في فلسطين، وهي أن هناك شعباً اقتلع من أرضه وحبس بين جدران محكمة في ظروف غير لائقة بالكرامة الإنسانية وأن هناك جيشاً يقتل المدنيين العزل لأنهم يخرجون في مظاهرات سلمية.
صناعة الوعي ليست أمراً هيناً، فجوهر المواجهة مع المشروع الصهيوني هو كيفية صناعة الوعي، تسخر دولة الاحتلال كل إمكاناتها الدعائية لتنسي العالم حقيقة أنها دولة غير طبيعية تمارس القتل والتهجير ولتجد موقعاً تنسجم فيه مع الخارطة العالمية، إن شعور أي فرد أو تجمع بشري أنه معزول عن الوسط المحيط هو شعور لا يطاق ومستنزف نفسياً. ولو رجعنا إلى الخطاب الإعلامي الإسرائيلي سنجد المسئولين الإسرائيليين يكررون كثيراً لتبرير أفعالهم أن كل دول العالم تفعل مثل هذا! هذا النمط من الخطاب يدل في تحليله النفسي أن الإسرائيليين لا يشعرون في قرارة أنفسهم أنهم دولة طبيعية مثل بقية دول العالم وهو ما يضطرهم لتأكيد ذلك مراراً وتكراراً، فالإنسان لا يؤكد ما هو بدهي.
وفلسفة مقاطعة دولة الاحتلال أن ترفع التكلفة النفسية لهذا المشروع وأن تخلق صراعاً داخلياً يزعزع قوة الانتماء والوحدة الداخلية، هذا الصراع لا ينمو في أجواء الحروب إذ تشحن النفوس بمشاعر الانتماء القومي والعصبية للدولة والجيش، أما حين يكون هذا الجيش في مواجهة مدنيين عزل يصرخون من أجل الحياة والكرامة فإن شعوراً بالعار يتسلل إلى نفوس الناس وتضعف الدافعية الأخلاقية للتبرير، وحاجة الإنسان إلى تبرير أفعاله ضرورة وجودية من أجل أن يكون قادراً على التصالح مع نفسه وعيش حياته بطريقة طبيعية.
لقد عبر هذا الشعور بالعار عن نفسه فعلاً في الأيام الماضية عبر أصوات من داخل المجتمع الإسرائيلي مثل أوري أفنيري الذي عبر عن خجله من الجيش الإسرائيلي ومن إسرائيل التي أصبحت دولةً قبيحةً وفق تعبيره، أو جدعون ليفي الذي قال إن الجيش الإسرائيلي الذي يطلق النار على متظاهرين ليسوا مسلحين خلف الجدار، ولا يهددون حياة الجنود ويتفاخر بقتل فلاح في أرضه هو جيش يقوم بمذبحة، ويستحق أن يسمى بجيش الذبح الإسرائيلي، أو الصحفي كوبي ميدان الذي فصل من عمله بعد تغريدته أنه يخجل من كونه إسرائيلياً.
لا تقوم فلسفة النضال السلمي على الإيذاء الجسدي للعدو، لكنها تركز على هدف أكثر أهميةً وهو إفقاد هذا العدو إجماعه النفسي للاستمرار في المعركة، إن هذا الهدف لا يتحقق سريعاً، فالعدو سيستدعي من جعبته مزيداً من الحيل النفسية لتبرير مواصلة استهداف المحتجين، لكن إصرار هؤلاء المحتجين على أسلوب النضال السلمي سيعري تلك التبريرات وسيجعل المواجهة أكثر وضوحاً بين مؤمن مجرد الإيمان سلاحه الكلمة والموقف، وبين قوة معتدية تواجه الكلمة بالقتل، وفي ضوء وضوح المشهد لا تظل المعركة بين قوميتين متنازعتين بل بين الكلمة والقوة، فيصبح أصحاب الكلمة مصدر إلهام روحي ينحاز الناس إلى نصرتهم وإحياء ذكراهم ويصبح أصحاب القوة مذمومين ملومين يسيرون بين الناس ناكسي رؤوسهم: "ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً".
يظن أصحاب الرؤية المادية المسرفة أن الحديث عن قيمة معنوية في المواجهة ضرب من ترف التفكير، لكن القيمة المعنوية تتفوق على القيمة المادية، فالإنسان في جوهره كيان روحي وليس كياناً مادياً، والخزي أوجع من النار في ميزان الدين: "ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته"، وفي حياتنا قد يحتمل الإنسان الألم والفقر لكنه لا يحتمل العار، لذلك فإن الانتصار الأخلاقي أهم من الانتصار السياسي، فقد تكسب الشعوب أراض جديدةً ثم تقيم فيها الظلم والعدوان، في المقابل فإن تعزيز الوضوح الأخلاقي يطهر النفوس ويزكيها ويحيي قلوب الناس ويعمرها بمعاني الخير والفضيلة وتشيع بينهم القيم النبيلة مثل التعاون والإيجابية. إن النضال السلمي لا يستهدف العدو الخارجي وحسب، بل يحقق نتائج إيجابيةً داخل المجتمع تتمثل في تحرير الناس من عبادة القوة وإطلاق طاقاتهم الروحية وتهيئتهم لبناء أنظمة تسود بالعدل والقسط فينشأ مجتمع التواد والتراحم.
هذه المعاني لم ترسخ بعد بالقدر الكافي في المجتمع الفلسطيني، وثمة تدافع في الميدان بين العمل السلمي وبين المقاومة الشعبية، وهناك من يسعى لتغيير طبيعة مسيرة العودة السلمية لتتحول إلى مقاومة شعبية بالمولوتوف والحجر، كما أن الفصائل لم تتبن مسيرة العودة من منطلق اقتناع مبدئي بقوة العمل السلمي بل اضطراراً، لكن ثمة معطيات يمكن استثمارها من أجل ترسيخ هذه الثقافة الجديدة، وهي أن الحديث عن النضال السلمي غدا مألوفاً في الخطاب الفلسطيني بعد أن كان مرادفاً للعجز والاستسلام، كما أن هناك مجموعات كثيرةً من الشباب والفتيات صاروا مؤمنين بجدوى الأنشطة السلمية في ميادين العودة مثل الرسوم الفنية والدبكة الشعبية والاحتشاد السلمي، ولو لم يكن العمل السلمي مجدياً لما رأينا حالة الإرباك من قبل الاحتلال في مواجهة مجموعات من الأهالي يمارسون أنشطةً مدنيةً بالقرب من السلك العازل.
حققت مسيرة العودة أهدافاً كثيرةً منذ أيامها الأولى فقد أحيت ثقافة العودة في نفوس الجماهير وصنعت مخيالاً شعبياً جميلاً، وسلطت الأضواء العالمية على القضية الفلسطينية من جديد، وفجرت طاقات الشباب المعطلة حين عرفوا أن هذه هي معركتهم وليست معركة الفصائل وحدها، كذلك حمت الشباب من الكآبة والفراغ وأكسبتهم صحةً نفسيةً، وعززت الوحدة الوطنية الحقيقية بتذكير الناس بقضية كبرى تستحق التوحد خلفها، وحولت الحصار من قوة مميتة إلى قوة دفع إيجابي في اتجاه وطني.
هذه الفوائد المعجلة هي إشارة لنا ألا نفرط بهذا الخيار وأن نحوله من حدث موسمي إلى رؤية استراتيجية مستدامة ومتراكمة تحيي مشروعنا الوطني وتستنزف مشروع الاحتلال بالقوة الناعمة التي نمتلكها، ولنتذكر أن الماء ينحت الصخر ليس بالضربة القاضية بل بالمتابعة والاستمرار.
أضف تعليقك