بقلم: ساري عرابي
(1)
لا أحد يملك فكرة واضحة عن دوافع الإجراءات العقابية التي أعلنتها قيادة السلطة الفلسطينية في نيسان/ أبريل العام الماضي؛ بهدف تقويض سلطة حماس في قطاع غزّة، فبينما ربطت قيادة السلطة هذا الإجراء باللجنة الإدارية التي شكّلتها حركة حماس لإدارة قطاع غزّة، فإنّ هذا الربط لم يعد حقيقيًّا حينما امتنعت قيادة السلطة عن إلغاء تلك العقوبات بعدما قامت حماس بحلّ لجنتها الإدارية في سياق جهود المصالحة التي انطلقت منذ تشرين أول/أكتوبر العام الماضي دون أن تسفر عن أي شيء.
أعلنت قيادة السلطة لاحقًا، وبعد جهود المصالحة تلك، أن العقوبات متعلقة بالتمكين الكامل لحكومة الوفاق الوطني لا باللجنة الإدارية، وبذلك لم تتقدم المصالحة خطوة واحدة إلى الأمام، إلى حين استهداف موكب رئيس حكومة الوفاق الوطني رامي الحمد الله في قطاع غزة في آذار/ مارس الماضي، لتتهم قيادة السلطة حماس بالوقوف خلف عملية الاستهداف، وتعلن عن إجراءات عقابية جديدة قالت إنها قانونية ووطنية ومالية، رابطة المصالحة وإنهاء تلك الإجراءات باستلام كامل للقطاع يشمل الأمن والسلاح، ثم عاد الرئيس الفلسطيني وأكّد على ذلك في الاجتماع الأخير لمركزية حركة فتح، مبينًا أنّه أطلع المصريين على نيته تلك وأن كل شيء منوط بتسليم حماس للقطاع بشكل كامل.
فعلاً بدأت السلطة في تطبيق إجراءاتها تلك، فصرفت رواتب موظفيها في الضفة الغربية، وحجبتها عن موظفيها في قطاع غزّة، وبالرغم من أنّ هذا الإجراء غير مستغرب في ذاته، وظلّ في دائرة التوقعات منذ عام، وخرجت تسريبات بشأنه في الأيام الأخيرة، وقد بدأت أساسًا الإجراءات العقابية قبل عام بحسومات كبيرة في رواتب موظفي السلطة في غزّة، بالرغم من ذلك، فإن التوقيت لافت.
يأتي التأكيد على الإجراءات الأخيرة، ثم البدء بتنفيذها، بعد مسيرات العودة في قطاع غزّة، والتي يُفترض أنّها تشكّل أرضية نضالية مشتركة ما بين حركتي فتح وحماس، إذ وطالما أعلنت القيادة الراهنة للسلطة الفلسطينية عن قناعتها بالمقاومة السلمية وسيلة وحيدة ممكنة للنضال في الظرف القائم، وهو ما ينبغي أن يعني، على الأقل، تأجيل مثل هذه الإجراءات، إمّا لاعتبار وطني، أي للبناء على أشكال المقاومة السلمية القائمة في غزّة الآن، أو لاعتبار دعائي يراعي عدد الشهداء الكبير الذي ارتقى في غزّة أخيرًا، وهذا بصرف النظر عن وجود المقاومة السلمية أو حجمها في الضفة الغربية.
التوقيت من هذه الجهة لافت، بيد أن السؤال يظلّ قائمًا، فحتى لو قلنا إنّ هدف السلطة تقويض حكم حماس، فلماذا هذه الإجراءات تحديدًا في هذا التوقيت بالذات؟!
(2)
لم تُتّخذ مثل هذه الإجراءات طوال سنوات الانقسام، ولا حينما كانت حماس تحكم القطاع بحكومة منفصلة مستظلّة بشرعيتها الانتخابية، ولا حينما كان الدم لم يزل ساخنًا بين الحركتين، ولا بعد محاولة الإحياء الدولي للعملية السلمية في أنابوليس، ولا بعد التهديد بإعلان القطاع إقليمًا متمردًا، لقد ظلّت قيادة السلطة تعتبر أن من لوازم شرعيتها، وتأكيد سلطتها، الاستمرار في دفع الرواتب لموظفيها في قطاع غزّة، وتحمّل مسؤولياتها المالية تجاهه، وهو ما فعلته كل الدول التي خرجت بعض أراضيها من سلطتها كما في العراق أو سوريا، مع اختلاف السياقات طبعًا.
لماذا تغيّر تفكير السلطة تجاه قطاع غزّة في العام الأخير فحسب؟!
حسنًا، لم تعد القضية هي اللجنة الإدارية، تأكد أن الأمر غير حقيقي، وحكاية التمكين الشامل غير ممكنة، بالنظر إلى أن التمكين الشامل ينبغي أن يكون في سياق اتفاق على كل الملفات والقضايا الكبرى، وبما يحرّر القضية الوطنية من الإرادة الاحتكارية لحركة فتح، إلا أنّه ليس في وارد حركة فتح إلا إغلاق كلّ المنافذ الذي يمكن لحماس أن تنفذ منها لمشاركتها في القرار والقيادة، وفي هذا السياق يأتي اجتماع المجلس الوطني في رام الله لترتيب البيت الفلسطيني برؤية خاصّة ومن طرف وطني واحد بمعزل عن بقية القوى الوطنية المؤثّرة والفاعلة.
مما يُقال في تفسير هذه الإجراءات، دون أن تجيب هذه الأقوال عن سرّ التوقيت، إن قيادة السلطة الراهنة تريد بإجراءاتها دفع قطاع غزّة للانفجار في وجه الاحتلال، أو في وجه حماس، بيد أنّ هذه الإجراءات الآن من شأنها أن تشوّش على مسيرات العودة التي يُفترض أنها لا تتعارض مع توجهات قيادة السلطة، وتعبّر عن بدايات انفجار في وجه الاحتلال، وأمّا الدفع للانفجار في وجه حماس، وإن كان تغليبًا للخصومة الداخلية على المسألة الوطنية، وانزياحًا عن التحدّي الكبير في مواجهة خطّة ترامب وما تلقاه من دعم عربي، فإنّه، أي الدفع للانفجار في وجه حماس الآن، يتعارض مع وجود مسيرات العودة القائمة، وهو ما يعيد طرح السؤال على قيادة السلطة عن عدم تأجيل إجراءاتها إلى وقت لاحق بحسب التطورات التي قد تُسفر عنها هذه المسيرات.
يبقى مما تقوله قيادة السلطة، إنّ حماس جزء من صفقة القرن، أي من خطة ترامب، وتسعى للانفصال بغزّة عن "المشروع الوطني"، إلا أنّ ما يشوّش على هذه الدعاية، هو تخلّي السلطة الفعلي عن مسؤولياتها تجاه القطاع، فهذا التخلّي، وبصرف النظر عن رد فعل حماس، هو فصل عمليّ لقطاع غزّة عن السلطة الفلسطينية، تحت شعار "إمّا أن يكون القطاع بكلّ ما فيه معنا، أو فليتدبر نفسه بنفسه"، ولا يبقى بعد ذلك إلا أن يتدبر القطاع نفسه بنفسه.
قد لا تتمكن حماس من تدبير التمويل الكافي لإدارة القطاع، وقد تكون إجراءات السلطة مدخلاً للقوى الدولية والإقليمية لمزيد من الضغط القاسي على حماس ومحاولة ترويضها، وربما ينبني على ذلك سعي لسحقها حربيًّا، والنتيجة أن سحق حماس، أو كسر المقاومة في قطاع غزّة، لا يمكن إلا أن يخدم صفقة ترامب، وفي حال لم يكن هذا هو السيناريو القادم، ونجحت حماس في توفير التمويل اللازم للقطاع، أو انفتحت القوى الدولية والإقليمية على حماس لهذه الغاية، فهذا تكريس لفصل القطاع الذي بدأته السلطة فعليًّا بتخليها عن مسؤولياتها تجاه القطاع، والنتيجة في كلا الحالتين غير ما تقوله دعاية السلطة.
أضف تعليقك