هل اضطر وزير الخارجية المصري إلى إعلان فشل مفاوضات سد النهضة، فكان مجبر آخاك لا بطل؟!
عندما كتبت مقالي الأخير الذي دار حول أن الأمور ليست على ما يرام، لم يكن المذكور وزير الخارجية (أسد المايك) قد أعلن فشل المفاوضات، وهو الاعلان الذي جاء في مؤتمر صحفي أستأسد فيه كعادته على (مايك الجزيرة)، وبشكل من تكراره صار أقرب إلى "لعب العيال"، يتبادله مع مراسل "الجزيرة"، والذي من واضح أن "اللعبة" أعجبته، فصار يمارسها مع (الفك المفترس) كما لو كان يلعب "المزرعة السعيدة"، لكن في هذه المرة مارس الوزير اللعب، وأعلن قراره المفاجيء بفشل المفاوضات، فهل كان مضطراً لذلك؟!
اللافت أن وزير خارجية السودان ابراهيم الغندور صرح بذلك أيضاً فأعلن (فشل المفاوضات)، على نحو كاشف بأن الوزير السوداني عندما قرر ذلك، لم يكن أمام الوزير المصري إلا أن يجاريه، فليس معقولاً أن يعلن السوداني فشل المفاوضات، ثم يقتصر أداء صاحبنا على (ميكرفون الجزيرة)، يبعده فيقربه المراسل، ولاسيما وأن القوم في القاهرة سبق لهم الإعلان عن أن القيادة السودانية تتآمر مع أثيوبيا ضد مصر لحرماننا من مياه النيل، وهو ما روجت له الأذرع الإعلامية للنظام الحاكم في القاهرة، إلى أن تمت المصالحة بين البلدين!
القاهرة تدرك جيداً أن المفاوضات فاشلة قبل أن تبدأ، فهى تتعامل مع الفشل على أنه تحصيل حاصل، وإذا كان وزير الري المصري قد أعلن في السابق فشل المباحثات، فقد بادر عبد الفتاح السيسي إلى "لملمة" الموضوع، وقال في جلسة مباحثات مع الرئيس السوداني ورئيس الوزراء الأثيوبي، أن الأمور على ما يرام، وفي الحالتين لم يحط الرأي العام علماً بما دار، سواء في اجتماع أديس أبابا الذي حضره السيسي، أو في مفاوضات السودان التي شارك فيها وزير خارجيته؟!
أثيوبيا رفضت كل المطالب المصرية واعتصمت باتفاق المباديء، الذي مثل موافقة مصرية مكتوبة على بناء السد، دون أي التزام من الجانب الأثيوبي بحصول مصر على قطرة مياه واحدة، وإذا كان الحكم العسكري في مصر طلب ادخال البنك الدولي كوسيط نزيه، فإن اتفاق المباديء التي تتمسك به أثيوبيا، ينص على أن الخلاف يحل داخلياً دون الاستعانة بطرف آخر، ولم يرتب شيئا إذا فشلت الأطراف الموقعة على الاتفاق في توصل إلى حل إذا احتدم الخلاف. وهى جريمة أقدم عليها السيسي، ثم عاد للقاهرة لينشر اعلامه أنه حل أزمة سد النهضة، ثم يطلب من الجميع الصمت الكامل، لأنهم لم يلموا بما تم الاتفاق عليه، دون أن يقول لنا ما هو تم غير هذا الاتفاق المعلن، والذي يمثل تنازلاً عن حقوق مصر التاريخية من مياه النيل؟!
وهذا الغضب من مجرد مناقشة هذه البنود، كاشف عن أن السيسي لم يكن قد وقع ضحية للتضليل الأثيوبي، ولكنه أقدم على ما فعل وهو في كامل قواه الذهنية، ضمن سياسته في التفريط والتنازل سواء عن الأرض أو غيرها من المقدرات، لحاجة في نفسه قضاها!
هل يعقل أن مصر ليست طرفاً ولو بالمراقبة في بناء سد النهضة، وأنها لم تشترط اشتراطات بديهية عن حجم السعة ومواصفات بنائه، بل إنها لم تمكن من زيارته سوى مرة واحدة، على طريقة زيارة السائح لمنطقة الأهرامات؟!
لقد أعلن وزير الري من قبل فشل المباحثات، ورفع الملف للحكومة للتصرف، فاندفعت لتطمئن هى المصريين، وكأنها حكومة أثيوبيا، وتكذب على الشعب بالاعلان عن أن رئيس الحكومة الأثيوبية في طريقه للقاهرة لتوجيه رسالة للشعب المصري عبر برلمانه، وهو الأمر الذي نفته مصادر أثيوبية، تبين أنها صادقة، فلم يأت رئيس الحكومة ولم يلق بيانا في البرلمان، فلحساب من هذا الإعلان الكاذب من قبل أهل الحكم في مصر!
وإذ اجتمع السيسي في أثيوبيا، في جلسة مع الرئيس السوداني ورئيس الحكومة الأثيوبية فقد خرج من الاجتماع، وهو يطمئن الصحفيين بأنهم بلد واحد، وأن الأمور على ما يرام، دون أي اضافة، لأنه من يتستر على ما يجري من مؤامرة على مصر وعلى أمنها القومي والمائي، مع سبق الإصرار والترصد!
ولا يجوز أن يقدم السيسي هنا على أنه "قليل الحيلة"، ولا أعرف ما إذا كان الاصطلاح المصري "قليل الحيلة" شائعاً لدى العرب العاربة والعرب المستعربة أم لا؟!
ومهما يكن فـ "قلة الحيلة" مرتبطة بالضعف وعدم القدرة على اتخاذ ما يلزم من مواقف وتدابير، والسيسي ليس "قليل الحيلة"، لكنه يمتلك أوراقاً مهمة وإلى الآن، يحرص على عدم استخدامها، وهو أمر لا يمكن لمثلي قبوله بحسن نية وسلامة طوية، لادراكي أن الطريق إلى جهنم الحمراء مفروش بالنوايا الحسنة!
قد نقبل أن يقع السيسي ضحية التغرير به عندما وقع على اتفاق المباديء سييء السمعة، وقد ظن أنه قد يأتي لأهله بالنصر فجاء لهم بالعار، لكن اصراره على المضي قدماً في هذا الاتجاه، هو الذي يؤكد أنه عندما وقع على الاتفاق كان يدرك ماذا يفعل!
لا بأس، فقد جاءت "الطوبة في المعطوبة" فماذا أمامه أن يفعل؟!
لقد كان أمامه أن يستخدم القوة العسكرية، فاللجوء إليها ليس تصرفاً أخرقاً، فالدول تحافظ على أمنها القومي بجيوشها، وإلا فمعنى وجود الجيوش، ومنحها الامتيازات، وتسليحها من "لحم الحي" في وقت يسأل السواد الأعظم من المصريين الله "ثمن النشوق"، وعلى مر التاريخ كان للجيش المصري دور في الحفاظ على مياه النيل، وقد فعلها حكام غير مصريين أيضاً!
فالجيوش لم تخلق لتكون على "خط الجمبري" أو لتزاحم في مجال استيراد لبن الأطفال، فمهامها قتالية أولاً وأخيراً.
وإذا لم تتدخل القوة العسكرية الآن فقد يتعذر تدخلها مستقبلا إذا جاء حاكم وطني، لا يقبل الضيم ولا ينزل على رأي الفسدة، لأن قصف سد النهضة بعد الانتهاء منه من شأنه أن يغرق السودان وينهي على السد العالي.
وباعتبار السيسي رجل سلام، وباعتباره لم ير الحروب سوى فيديو رغم اغتصابه لرتبة المشير، وقد تفزعه فكرة الحروب، فقد كان أمامه أن يعرض الاتفاق على البرلمان ليرفضه، ثم على الاستفتاء الشعبي فيرفض فيكون اللجوء للتحكيم الدولي، واللافت أنه يتجاهل هذا المخرج تماماً، بل يتجاهل النص الدستوري بعرض الاتفاقات الدولية على البرلمان، ويندفع في الدخول في مفاوضات يدرك الجنين في بطن أمه أنها فاشلة، قبل أن تبداً!
لا بأس، فالبأس الشديد أن يعلن وزير الخارجية فشل المفاوضات، ثم تبدو السلطة "قليلة الحيلة"، فلا بدائل أمامها، فسوف ننتظر ليلتقي السيسي بالقيادة الأثيوبية الجديدة ليقال أن السابقة كانت متشددة لنجرب حظنا مع المعتدلين، ليتم الإعلان ربما أكثر من مرة عن فشل المفاوضات، والعودة إليها، إلى حين انجاز المهمة التي يوافق عليها السيسي فعلاً، بالانتهاء من بناء السد، عندئذ يتم وضع العربة أمام الحصان!
إنها المؤامرة التي يشارك فيها السيسي وهو في كامل قواه العقلية، بيد أن مصر كانت بحاجة إلى "عسكري دكر"!
لو كان مرسي في الحكم لما حدث ما حدث!
أضف تعليقك