جاء إطلاق مسيرة العودة الكبرى، في ذكرى يوم الأرض في الثلاثين من آذار/مارس 2018، موافقاً، في هذه السنة، للذكرى السبعين لنكبة فلسطين. وهي النكبة المتمثلة بتشريد ثلثي الشعب الفلسطيني من بيوتهم وقراهم ومدنهم وإحلال المستوطنين اليهود وإقامة الكيان الصهيوني غير الشرعي مكانهم.
وجاء هذا الإطلاق بمبادرة من "اللجنة التنسيقية العليا لمسيرة العودة الكبرى" من خلال زحف شعبي باتجاه خطوط الهدنة لعام 1948، في قطاع غزة. وذلك باعتباره بداية، لمسيرة شعبية سلمية متواصلة، وبوتائر مختلفة، وصولاً إلى أن تبلغ ذروتها في الخامس عشر من شهر أيار 2018، الموافق لمرور سبعين عاماً على نكبة فلسطين، وقد يكون موعد لقاء مع مجيء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لوضع حجر الأساس لمبنى السفارة الأمريكية في القدس، متحديا الفلسطينيين والعرب والمسلمين، وكل أحرار العالم وهو يكرس القدس عاصمة للكيان الصهيوني.
لقد تحوّل يوم الأرض في الثلاثين من آذار/مارس لهذا العام إلى يوم تاريخي مجيد في قطاع غزة. شهد زحف مئات الألوف من الشيوخ والرجال والنساء والشباب والأطفال ليعلنوا بدء مسيرة العودة الكبرى السلمية. وذلك من أجل تأكيد استمساك الشعب الفلسطيني بثابت حق تحرير فلسطين وحق العودة إليها، كما مقاومة الاحتلال والاستيطان في الضفة الغربية، ولمنع تهويد القدس. ولفك الحصار عن قطاع غزة.
وما كاد العدو الصهيوني يرى الحشود الشعبية السلميةالعزلاء من السلاح حتى راح يمطرها بالرصاص الحي والمطاطي، مصوباً على الرؤوس، ليمعن في القتل والارهاب. وقد ظن أن ذلك سيخيف المسيرة المباركة ويعيد الحشود إلى البيوت. ولكن ارتقاء الشهداء (ستة عشر شهيداً) وسقوط الجرحى (1250 جريحاً)، كان حافزاً إضافياً لمزيد من التصميم على المضي بمسيرة العودة الكبرى طوال ذلك اليوم التاريخي المجيد. وقد حاز قطاع غزة مرة أخرى على عظيم اعتزاز الشعب الفلسطيني كله والأمة العربية والإسلامية وقطاع واسع من الرأي العام العالمي.
إنها البطولة والتضحيات وعدالة القضية في أنبل معانيها. ولكن ذلك يشكل بعداً واحداً من أبعاد قرار إطلاق مسيرة العودة الكبرى. فقد وجب التأكيد بأن هذا القرار صائب من حيث التوقيت، وصحيح من حيث تناسبه الإيجابي مع ما يسود من موازين قوى وظروف سياسية عامة. وهذا يعني أن هذه المسيرة إذا ما مضت بحزم وشجاعة لتنفذ ما خططت له من خطوات لاحقة حتى الخامس عشر من أيار 2018، ستحقق، بإذن الله، ما تأمله من أهداف.
أولاً: من حيث التوقيت، أُحسِن اختيار يوم الأرض للإنطلاق. وأُحسِن اختيار شهر نيسان إلى منتصف أيار: ذكرى النكبة، والرد على وضع حجر الأساس لبناء السفارة الأمريكية ونقلها إلى القدس، وأخيراً ليس آخراً، ثمة إمكان لتمديد المسيرة إلى رمضان إذا وجد مناسباً.
ثانياً: من حيث موازين والظروف السياسية: (أ) وضع العدو ضعيف (جيشه مهزوم في أربع حروب). (بـ) حكومته مُربكة بقضايا الفساد، والانقسام الداخلي، ومؤهلة لارتكاب الأخطاء في قرارت الرد وإدارة الصراع. وتعاني من علاقتها بحلفائها الدوليين، ومُحرَجة حتى مع الحكومات العربية المهرولة، بخزي وعار، نحوها. (جـ) احتدام الصراع الأمريكي- الروسي، والأمريكي- الصيني والحروب التجارية، والعلاقات الأمريكية- الأوروبية كل هذه ليست في مصلحة الكيان الصهيوني.
ثالثاً: (أ) مواجهة الأسلوب الشعبي السلمي الحازم والمصمم وطويل النفس لا خبرة للعدو في مواجهته، ومن شأنه أن يساعد على انطلاق انتفاضة شعبية شاملة في القدس والضفة الغربية. كما الحفز على تحريك وتحويله تضامن شعبي وفصائلي وشبابي فلسطيني موحد، فضلاً عن تحرك جماهير الـ48.
(بـ) الصبر والتحمل العظيم للتضحيات وارتقاء الشهداء وسقوط الجرحى مع التصميم على مواصلة المواجهة الشعبية سوف يؤدي إلى تجاوب شعبي عربي وإسلامي واسع ومؤثر في الوضع السياسي كله عربياً وإقليمياً وعالمياً. بل سوف يقلب الطاولة في وجه تصفية القضية الفلسطينية.
(جـ): إن مواصلة العدو على ارتكاب الجرائم بحق الحشود الشعبية السلمية العزلاء من السلاح سوف تحرك قطاعات واسعة من الرأي العام العالمي ضده، كما التعاطف مع الشعب الفلسطيني. وهذا ما لا قِبَل له على احتماله، لا هو ولا حتى حكومات الغرب، ولا حتى الإدارة الأمريكية.
ومن هنا فإن مسيرة العودة الكبرى إذا ما مضت بحزم وفق برنامجها وتحلت بالشجاعة. ولم ترضخ لإرهاب الرصاص، واحتملت ارتقاء الشهداء وسقوط الجرحى. وهو ما يجب أن يعامل ضمن نطاق الاحتمال، إذ سيكون أقل بكثير مما قدم في حرب واحدة من الحروب الثلاث التي تعرض لها قطاع غزة، أو تعرض لها الشعب الفلسطيني مراراً مثلاً في مجزرة صبرا وشاتيلا، أو حرب 1982 في لبنان. ففي أي من هذه الأمثلة لم يقل عدد الشهداء عن الألفين إن لم يتعد ثلاثة آلاف.
وأما الفرق في هذه المرة فإن ما سيقدم من تضحية في هذه الجولة أمامه فرص انتصار، وتحقيق أهداف ملموسة، ولا سيما إذا ما انضمت القدس والضفة في انتفاضة شعبية سلمية مماثلة. ولا يجب أن يكون أقلها رفع الحصار عن قطاع غزة، ودحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات من الضفة الغربية والقدس بلا قيدٍ أو شرط.
إن تحقيق هذه الأهداف ممكن بلا مفاوضات ولا مساومات كما حدث تفكيك المستوطنات والانسحاب (فك الارتباط) مع قطاع غزة عام 2005. ومن ثم، يكون بعد العودة إلى خطوط الهدنة 1948/ 1949، لكل حادث حديث. وليختلف الفلسطينيون بعدئذ بين من يريد تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، ومن سيغرق من جديد في أوهام حل الدولتين؟
ولعل مروراً سريعاً في رصد اليوم الأول لانطلاقة مسيرة العودة الكبرى يعطي مؤشرات تؤكد نسبياً ما هو متوقع من نتائج إذا ما تواصلت مسيرة العودة الكبرى حتى نهايتها في 15 أيار/مايو القادم، وأكثر.
إن أعداد المشاركين في اليوم الأول لانطلاقة المسيرة في قطاع غزة عبر عن تجاوب شعبي هائل حين وصل إلى احتشاد، مئات الألوف من كل أطياف الشعب والأعمار والفئات الاجتماعية والتوجهات السياسية. فضلاً عما عبر عنه من وحدة وطنية رائعة. وقد عبر أيضاَ عن استعداد عظيم لمواجهة الرصاص الحي وارتقاء الشهداء وسقوط الجرحى. ثم جاء تشييع الشهداء في اليوم التالي ليعبر، بزخم أكبر، عن الموقف الشعبي والمشاركة الشعبية والتصميم على مواصلة المسيرة.
كان التجاوب الانتفاضي للشباب في القدس والضفة الغربية سريعاً بالرغم من المفاجأة، ومن عدم التأكد من الأبعاد التي تحملها المسيرة في قطاع غزة، من حيث الأهداف والخطة والاستمرارية. ولذلك فإن ما يمكن توقعه، استناداً لإرهاصات التجاوب الأول في القدس والضفة، لما سيكون من ردة فعل مقدسية- ضفاوية مع تواصل مسيرة العودة الكبرى قد يصل إلى انتفاضة شعبية شاملة تتقدم حتى على ما وصله الزخم الشعبي في قطاع غزة. فالقدس والضفة الغربية في حالة تفجر لما يتعرضان له من احتلال واستيطان وتهويد وتآمر، ولا سيما مع سقوط كل رهان على ما يسمى نهج اتفاق أوسلو أو التسوية والمفاوضات ومشاريع الحلول الوهمية. الأمر الذي يؤكد من خلال ما عرفته القدس والضفة من إرهاصات وحراكات انتفاضية أن الوضع ينتظر الحدث المناسب واللحظة المناسبة لتفجر الانتفاضة الشعبية الشاملة. ومن هنا فإن ما عبرت عنه القدس والضفة منذ اليوم الأول للتجاوب مع أولى خطوات مسيرة العودة يؤكد أن قابل الأيام مع ما ستقدمه المسيرة من تصميم وتضحيات، ستشهد التجاوب المنشود.
أما ردود الفعل على المستوى العربي والإسلامي والعالمي، وعلى المستويين الشعبي والرسمي (الدول والهيئات الدولية) شكل بداية واعدة لتصاعد كبير في شجب الجرائم الصهيونية، ولو بدأت بالحديث من ناحية الدول والهيئات الرسمية بالاحتجاج على استخدام "العنف الزائد"، أو الذي لا لزوم له، إلاّ أنها ستتصاعد وتقوى مع المزيد من المواجهات بين حشود شعبية سلمية تواجه رصاص العدو عزلاء من السلاح. الأمر الذي سيدخل حكومة نتنياهو في مأزق شديد ولا سيما إذا نفذ تهديده بالمزيد من التقتيل والإرهاب. فالمعركة على مستوى الدول عربياً وإسلامياً وعالمياً ستكون في مصلحة مسيرة العودة الكبرى وانتفاضة القدس والضفة لا محالة.
على أن ما هو أهم من مواقف الدول سيكون تعاظم الحراكات الشعبية وتجاوبها الغاضب مع زيادة جرائم العدو وارتقاء الشهداء وسقوط الجرحى والتصميم على المضي في المواجهة حتى تحقيق الأهداف الأولى، وهي إسقاط ما تتعرض له القدس والضفة والقضية الفلسطينية وكل قطاعات الشعب الفلسطيني من مخططات صفقة القرن، ومن حصار لقطاع غزة، ومن احتلال واستيطان للقدس والضفة الغربية.
إن التأثير في المواقف الشعبية عربياً وإسلامياً ورأياً عاماً عالمياً سيكون أكيداً مع تصاعد مسيرة العودة الكبرى وانطلاقة الانتفاضة الشاملة في القدس والضفة.
وأخيراً، الحذار الحذار من المثبطين أو من يتعبوا من أول الطريق.
أضف تعليقك