بقلم: طه أوزهان
كنت قبيل انتخاب الرئيس محمد مرسي مباشرة قد كتبت ما يلي:
ستستقبل مصر رئيسها الخامس منذ عام 1953. ما أقصده هو أن البلاد لم تشهد سوى أربعة رؤساء خلال تسعة وخمسين عاما، هذا إذا لم نحسب رئاسة صوفي أبو طالب الذي لم تستمر رئاسته سوى ثمانية أيام منذ اغتيال السادات وحتى تنصيب مبارك، وكذلك "الرئيس القائم بالأعمال" حسين طنطاوي الذي استلم السلطة بعد الإطاحة بحسني مبارك. ما يعد مثيرا بشأن انتخابات الرئاسة المصرية لعام 2012، أنها أول انتخابات تجرى دون أن تكون نتيجتها محسومة ومرتبة مسبقا. ولذلك بات عدم معرفة من الذي سيفوز في الانتخابات أكثر جذبا للاهتمام من كون مصر سيرأسها أخيرا رجل مدني.
ثم كتبت في مقالة لاحقة في عام 2014 ما يلي:
فعليا، كانت الانتخابات التي فاز بها مرسي تنافسا بين الفلول من جهة والمؤسسة الجديدة من جهة أخرى، أما انتخابات هذا الأسبوع فكانت بوضوح منافسة بين الفلول والمؤسسة القديمة. ما بات واضحا وضوح الشمس في هذه الانتخابات هو أن عبد الفتاح السيسي لم يتمكن من إنتاج ما يشبه الانتخابات، ولا حتى انتخابات ذات نتيجة معدة مسبقة كتلك التي كان ينظمها مبارك من قبل. لا يوجد ما يبعث على الأمل من انتخابات تنظمها قيادة انقلاب عسكري بدعم سياسي من الولايات المتحدة وتمويل من الخليج وعنف يمارسه البلطجية وشرعية يوفرها الليبراليون. لم يتجاوز دور حمدين صباحي -الذي صفق للعسكر وهم يطيحون بالحكومة المنتخبة في انقلاب 2013 الذي أيد ترشح السيسي للانتخابات الرئاسية- مجرد كومبارس الهدف من وجوده إضفاء لمسة من الشرعية على الانتخابات. في هذا السياق، لا قيمة لرئاسة السيسي، التي من الواضح جدا الآن أنها كانت الغاية الأساسية من الانقلاب، إلا بقدر ما يكتسبه بشار الأسد من قيمة إذا قيل لنا إنه فاز بانتخابات الرئاسة في سوريا.
فقدان الإحساس ثم الشلل
أدركت حين عدت لمقالاتي تلك وقرأتها أن تحليلي ما زال صائبا ومطابقا للأوضاع الحالية في مصر كما كان مطابقا لتلك التي كتبت المقالات في سياقها. لا مراء في أن طبيعة الأحداث الجارية في مصر تتحدى السياق الزمني، فحينما يُقتل الأمل في التغيير تتوقف السياسة، بل ويتوقف التاريخ، إلى حين.
وكما قال جورج أورويل في عام 1984:
توقف التاريخ. لم يعد موجودا سوى حاضر لا نهائي، يظل فيه الحزب على صواب
تكمن المأساة الناجمة عن هذه الكارثة في فقدان الناس للقدرة على الإحساس وصولا إلى الشلل، فحتى لو كان الناس راغبين في التغيير، إلا أنهم واقعون في مأزق الشعور بالحساسية تجاهه، وبشكل دراماتيكي جدا.
حزب السيسي تشكل من تحالف قوي ومتماسك من الفاعلين الإقليميين والدوليين، من أوباما إلى ترامب، ومن نتنياهو إلى ممالك الخليج، ومن الاتحاد الأوروبي إلى روسيا. ولذلك يجد المصريون أنفسهم مجبرين على الخضوع لإدارة هذا الحزب. والسؤال الحيوي هو: إلى متى سيبقى هذا الوضع الغريب والمريب؟
كانت مصر قد ضلت طريقها في القرن العشرين، وهناك مؤشرات قوية على أنها قد تعاني طوال الجزء الأكبر من القرن الحادي والعشرين من المصير ذاته. ففي غياب فرص التغيير في المستقبل المنظور، لا توجد أسس واقعية يمكن أن يقيم المرء بناء عليها تقديرا إيجابيا.
وقد يقول قائل إن الوضع في مصر طبيعي إذا ما أخذنا بالاعتبار ما يمر به عالمنا المعاصر من فوضى سياسية، ولا يمكن بسهولة تجاهل مثل هذا الرأي.
يبدو أن كل من هم على شاكلة السيسي في المنطقة يحثون الخطى للاستثمار في الركود السياسي العالمي، ويتوقعون مقابل ذلك الحصول على الشرعية أو على الأقل الفوز بالقبول، لمجرد أنهم منسجمون مع الاضطراب الإقليمي والعالمي.
وهنا، تدخل الحماقات المقارنة في المعادلة الجيوسياسية: عندما يكون ترامب رئيسا للولايات المتحدة، ويقتل الأسد مئات الآلاف من شعبه، ويعمق نتنياهو الاحتلال في فلسطين، وليبيا تشتعل فيها النيران، والعراق يعيش أزمة سياسية وأمنية خانقة، ويعاني لبنان من انسداد سياسي ما لبث يشهده منذ عقود، وتقدم المملكة العربية السعودية داخل فندق الريتز كارلتون نموذجاً سياسياً غاية في الغرابة والشذوذ.
في خضم ذلك كله، ما الذي يمنع مصر من أن تندفع نحو نهايات الهندسة السياسية العدمية؟
حزب الكرة
نحن بصدد عالم من الخيال يعيشه الشرق الأوسط هذه الأيام، عالم يتصدر فيه من يرفع راية محاربة الإرهاب، واضعا يده على الكرة متعهدا بالقضاء عليه، كما شهدنا في حفل افتتاح المركز العالمي لمحاربة الفكر المتطرف في الرياض.
ولكن قد لا يسر السيسي أن يعلم بأنه حتى يتمكن من ضمان بقائه في الحكم، فلابد أن يبقي يده على الكرة مهما كان الثمن، إلا أن الكرة لها عمر محدود وتاريخ انتهاء صلاحية لابد أنها ستبلغه.
يتكون اختراع الكرة من تضخيم التهديد الإسلامي وشيطنة جماعة الإخوان المسلمين، واختزال المجال الجيوسياسي في الإرهاب.
ولذلك، يتوقف بقاء الكرة على استمرار التهديدات، وينبغي على "حزب الكرة" إلحاق الهزيمة بالإرهاب حتى يضمن نجاحه، إلا أن هذا بدوره سيؤدي إلى اختفاء الكرة من الوجود.
لا تجد مصر مكانا مناسبا لها في المحور الذي اصطنعه مشروع إسرائيل والخليج والسيسي.
فقد حكم النظام المصري على نفسه بالولوج في مستنقع لا قبل له بالخروج منه. ورغم ما يبدو من أن العالم قد يسعى لاحتواء الأزمة السياسية والحقوقية المتفاقمة في مصر، إلا أنه لا مفر أمام النظام الانقلابي من تدبير تمويل يستجيب من خلاله للتظلمات الاجتماعية والاقتصادية في وقت لم يعد يبقى لديه شيء من الجزر.
في ما يتعلق بالاقتصاد المصري، يمكن للمرء أن يربط بسهولة ما بين الحكم العسكري ما بعد انقلاب عام 2013 والتردي الهائل في الاقتصاد وفي الوضع المعيشي.
فقد قفز الدين الخارجي من 38 مليار دولار إلى ما يزيد عن 80 مليار دولار، ومعظمه تمويل توفره المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة وصندوق النقد الدولي. ووصلت الضرائب إلى مستويات خيالية بعد أن لجأ النظام إلى خيار رفع الضرائب بنسب ضخمة على المئات من السلع والخدمات.
وبينما يزداد الوضع الاقتصادي سوءا، وينذر بالخطر، يجد النظام المصري نفسه مضطرا لأن يرضي المحور الإسرائيلي الخليجي أكثر مما يرضي شعبه. وهذه "المهمة المستحيلة" هي التي ستحدد معالم المستقبل في مصر.
نظرة استشرافية
على الرغم من أن تنظيم الدولة وبعض التنظيمات الأخرى في سيناء وفرت للسيسي إلى حد ما بعض احتياجاته للحصول على الشرعية، إلا أن النظام الانقلابي لم يتمكن من الدفع بجماعة الإخوان المسلمين من خلال ما يمارسه ضدها من عنف وترهيب نحو التحول إلى مجموعة مسلحة.
نجح المصريون في الحفاظ على السلم المجتمعي بالرغم من الانقلاب الدموي، والدعم الإقليمي والدولي المهين للنظام العسكري، وقتل آمال الملايين، والتداعيات المدمرة لإحباط الربيع العربي.
وهذه الحقيقة بحد ذاتها تشكل مصدرا للأمل في التغيير، وذلك لأن حزب الكرة لا يملك خطة جاهزة ومفهومة لمواجهة الحركات السياسية غير المسلحة التي تطالب بالتغيير وبالديمقراطية وبالكرامة.
وذلك أن البرامج التي يملكها هذا الحزب لا تجدي نفعا إلا في حالة الجماعات المسلحة مثل تنظيم "داعش" ومن على شاكلته.
في عالم حزب الكرة، لا يوجد للجماعات السياسية لا قيمة استخدامية ولا قيمة استبدالية. فالعملة الوحيدة المستخدمة في عالم حزب الكرة هي الإرهاب.
صحيح أن المصريين قد لا يتمكنون من التطلع إلى الديمقراطية في القريب العاجل، ولكن عليهم ألا يقدموا لحزب الكرة هدية مجانية من خلال الإرهاب.
لقد نجحوا حتى هذه اللحظة في إنجاز هذه المهمة الشاقة والعسيرة، وسيبقى ذلك هو الأمل الوحيد من أجل مستقبل أفضل.
أضف تعليقك