بقلم: فيصل القاسم
العدو الخارجي ضرورة استراتيجية أقرّها ماكيافيلي في كتابه الشهير «الأمير»، وقد نصح فيه أحد الحكام الإيطاليين المحليين وقتها بأن يصنع عدواً خارجياً، إذا لم يكن لديه عدو، لأنه لا يمكن توحيد الشعب إلا في ظل وجود خطر خارجي. ومنذ ذلك الحين، والدول تصنع أعداءها أو سعيدة بخصومها، إما كي تعمل على توحيد شعوبها داخلياً، أو كي تبتز الشعوب التي تحكمها وتوجه أنظارها إلى الخارج، خاصة عندما تكون تلك الأنظمة الحاكمة تعاني من مشاكل وأزمات داخلية تهدد حكمها. وكلنا يتذكر العبارة العربية الشهيرة التي أطلقها نظام الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر: «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة». وكان يقصد طبعاً المعركة مع إسرائيل. وبموجب ذلك الشعار القذر، تمت مصادرة الحريات وترسيخ حكم الاستخبارات والمكتب الثاني، وتركيع الشعب بحجة أن البلد يواجه حرباً وعدواً خارجياً لا بد من تسخير كل شيء لمواجهته. وقد استخدم الكثير من الأنظمة العربية ذلك الشعار، فيما بعد للأهداف نفسها، فقد فرض النظام السوري قوانين الطوارئ منذ ستينيات القرن الماضي بحجة وجود عدو خارجي يتطلب تعطيل كل القوانين العادية والحكم بموجب قوانين استثنائية.
وقد سخر الشاعر المصري الراحل أحمد فؤاد نجم من شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» لكثرة ما استخدمته الأنظمة العسكرية زوراً وبهتاناً عندما قال: «ألو ألو يا همبكة، لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، هرشت مخي، هيّا فين المعركة».
طبعاً لا أحد هنا ينكر أن إسرائيل كانت ومازالت تشكل خطراً على جيرانها العرب، ولا بد من تذكير الشعوب بذلك العدو، لكن الأنظمة العربية الديكتاتورية بالغت في استغلال العدو الخارجي لأغراض لا علاقة لها أبداً بالعدو. ولا يمكن أن ننسى أن الأنظمة الغربية ممثلة بأمريكا وأوروبا أيضاً استغلت الخطر السوفياتي الشيوعي لعقود وعقود على مدى سنوات الحرب الباردة التي استمرت حتى سقوط الكتلة الشيوعية في بداية ثمانينيات القرن الماضي.
ونجح الإعلام الغربي الأسطوري في شيطنة الشيوعية وتصويرها على أنها عدو يجب على كل الشعوب الغربية أن تقف صفاً واحداً ضده. وفعلاً ظلت الشعوب الغربية متحدة في وجه الاتحاد السوفياتي والخطر الأحمر حتى انهار الاتحاد.
ماذا تفعل الأنظمة الغربية عندما انهار الاتحاد السوفياتي وزال الخطر الشيوعي الذي كان بمثابة بعبع بالنسبة للبلدان الغربية على مدى عقود وعقود؟ وجدتها، وجدتها، بدأ الإعلام الغربي يضخّم الخطر الأخضر، ألا وهو الخطر الإسلامي، وشاهدنا كيف أصبح تنظيم القاعدة الشغل الشاغل للإعلام الغربي على مدى أكثر من عقدين من الزمن. وصارت الشعوب الغربية تنظر إلى الإسلاميين على أنهم الخطر الجديد الذي حل محل الخطر الشيوعي. وعلى الرغم من ظهور داعش واستغلاله كبعبع جديد لفترة من الزمن، إلا أن الخطر الداعشي بدأ يتلاشى من الإعلام الغربي شيئاً فشيئاً، إلا إذا احتاجوه لاحقاً وأحيوه لتمرير بعض المخططات الجديدة. ماذا يفعل الغرب بعد أن أصبح الخطر الإسلامي ضعيفاً، لا بد من تصنيع أو إيجاد عدو خارجي جديد على الطريقة الماكيافيلية. وبما أن روسيا بقيادة بوتين بدأت تظهر على الساحة الدولية وتنافس الغرب في أكثر من ساحة، فقد وجدت المؤسسات الحاكمة في روسيا الجديدة خطراً قد يرقى إلى عدو خارجي يجب تحشيد الشعوب ضده من جديد. بالأمس كان الاتحاد السوفياتي، واليوم الاتحاد الروسي، ولا تتفاجأوا إذا ما بدأت شيطنة الصين لاحقاً بعد أن أصبحت تنافس أمريكا ذاتها في إجمالي الناتج المحلي.
لا أحد ينكر أن روسيا الجديدة أقرب إلى الدولة المارقة منها إلى الاتحاد السوفياتي السابق الذي كان فعلاً يشكل تهديداً وجودياً للغرب، إلا أن قوتها بدأت دون أدنى شك تتصاعد شيئاً فشيئاً، ولا بد من الاحتراس منها مبكراً، لهذا بدأ الغرب يعمل على شيطنتها وتخويف الشعوب من خطرها. ولا ننسى أن مؤسسة الأمن القومي القريبة جداً من الدولة العميقة في أمريكا ما زالت تنظر إلى روسيا نفس النظرة التي كانت تنظرها إلى الاتحاد السوفياتي السابق رغم انهيار الاتحاد وزوال خطره. ولو سألت كبار المستشارين والمسؤولين في الأمن القومي الأمريكي لقالوا لك إن روسيا البوتينية نسخة شيطانية جديدة عن الاتحاد السوفياتي، ولا بد من مواجهتها، بينما نرى أن البيت الأبيض يرى أن العدو الجديد لأمريكا الذي يجب البدء بالتركيز عليه هي الصين. وبغض النظر من هو العدو الأكثر خطورة على أمريكا، فإن الخلاف بين البيت الأبيض والأمن القومي على ماهية ذلك العدو يؤكد على أن أمريكا لا تستطيع العيش بدون عدو خارجي حتى لو صنعته بنفسها كما فعلت مع الجماعات الإسلامية. ولا ننسى أيضاً أن الروس أنفسهم عادوا للعزف على الاسطوانة القديمة ذاتها في عقيدتهم العسكرية الجديدة التي وقعها بوتين قبل سنتين، فقد اعتبرت الوثيقة الجديدة أن العدو الرئيسي لروسيا هي أمريكا. بعبارة أخرى، فإن روسيا بدورها بدأت تشيطن العدو الغربي من جديد لتوحيد الروس داخلياً ضد عدو خارجي.
هل يمكن إذاً أن نعتبر هذا العقاب الأمريكي الأوروبي الجماعي لروسيا وطرد أكثر من مائة وأربعين دبلوماسياً روسياً من أكثر من ستة عشر بلداً تأديباً لروسيا على محاولتها تسميم جاسوس روسي في بريطانيا، هل يمكن أن نعتبره صافرة البداية لإعلان روسيا عدواً جديداً للغرب؟ الروس أنفسهم يخشون من عودة الحرب الباردة بثوب آخر. هل تكون روسيا العدو الجديد للغرب لعقود قادمة؟ لننتظر ونر.
أضف تعليقك