• الصلاة القادمة

    الظهر 11:01

 
news Image
منذ ثانية واحدة

بقلم: هشام الحمامي

فى 18 آذار/ مارس 1967، أي منذ نصف قرن، استيقظ المصريون على مقالة في جريدة الجمهورية تحمل توقيع شخص من أهم شخصيات النظام السياسي في هذا الوقت، شخص غير عادي ويشغل منصبا غير عادي، ويبدو أنه سيتناول موضوعا غير عادي.. أما الشخص فهو علي صبري، أحد أخطر ضباط انقلاب 23 تموز/ يوليو من مواليد 1920، مؤسس جهاز المخابرات العامة، وكان مديرا لمخابرات الطيران سنة 1951، وتلقى دورة مخابرات في أمريكا عام 1948، وكان مسؤول الاتصال مع السفارة الأمريكية يوم الانقلاب. وأما المنصب الذي يشغله، فهو الأمين العام للاتحاد الاشتراكي، التنظيم السياسى الوحيد في البلاد، والذي تأسس في تشرين الثاني/ نوفمبر 1962، والذي كان يمثل "طليعة الاشتراكية التي تقود الجماهير، وتعبر عن إرادتها، وتوجِه العمل الوطني، وتقوم بالرقابة الفعالة على سيره وخطه السليم في ظل مبادئ الميثاق). وأما الموضوع، فكان القضاة والقضاء، آخر معارك حركة الضباط الأحرار مع القوى الحية والفاعلة في المجتمع، والتي لا يراد لها يا إخوتي أن تكون حية ولا فاعلة.

كانت تسع مقالات، وكانت التمهيد الخطير للاختراق الكبير لأهم مؤسسات الوطن، مؤسسة العدالة، والتي كانت صاحبة تاريخ عريق وعتيق في حياة وحيوية وحماية وحفظ الجماعة الوطنية.

قال الرجل في المقالة الأولى: إن رجال العدالة لا يجب أن يقفوا بعيدا عن نضال قوى الشعب العاملة، ولا يجب أن يكونوا طبقة منفصلة عن المجتمع فتصبح أحكامها في غير صالح المجتمع، أو لصالح المستغلين والمنحرفين الذين لم تصدر ضدهم أحكام لعدم ثبوت الجريمة، حيث أن التفتيش كان باطلا أو لعدم كفاية الأدلة للإدانة.. يقول الرجل صراحة إنه يجب إملاء الأحكام التي يجب أن تصدر ضد الذين يرى التنظيم السياسي أنهم يعملون ضد مصالح المجتمع، بصرف النظر عن القواعد القانونية والأدلة التي تتطلبها إدانة أي منهم، بعدها ستتم ملاحقة السياسيين قضائيا!! وستسمع كثيرا جملة "أحكام قضائية" ضد من يبدى دهشته من تتبع المعارضين وملاحقتهم، وهي الأحكام التي صدرت على طريقة "على صبري" كما رأينا.

سيحكي القصة كلها بعد ذلك الأستاذ صلاح منتصر، في مقال نشرته الأهرام في 20 آذار/ مارس 1983م، تحت عنوان "غزوة القضاء"، قال في متهكما: في الوقت الذي كان اهتمام العالم فيه مركزا منذ بداية الستينيات على ملاحقة السباق الكبير الذي بدأ بين الدولتين العظميين، أمريكا وروسيا، لغزو الفضاء، كان من بين اهتمام السلطة في ذلك الوقت ترتيب عملية "غزو القضاء".

بدأت المعركة باختيار المستشار محمد أبو نصير وزيرا للعدل، وهو الرجل الذي كانت له اليد الطولى في إصدار قانون خاص سنة 1955م؛ بتصفية مجلس الدولة من القامات الكبيرة التي كانت تريد كبح جماح "الضباط". جاء السيد الوزير ليدير المعركة علنا، عن طريق حركة الترقيات والتنقلات والندب (ستتطور هذه الإغراءات فيما بعد إلى ما يفوق ذلك كثيرا)، وليبدأ في تفعيل "المجموعات الخفية" التي كانت تنظيما سريا داخل القضاء. كانت هناك أكثر من مجموعة "كلاستر" باللغة الحركية؛ تعمل في صور منفصلة، يقود كل منها أحد البارزين في "دولة البكباشي" آنذاك.

يحكي لنا الدكتور حسين مؤنس عن ذلك في كتابه الشهير "باشوات وسوبرباشوات" حكاية طريفة كانت بطلتها الشيخة نظيرة!! يقول: المأساة لم تكن في قبول الذين يحملون وسام العدل مهمة التجسس على زملائهم وكتابة تقارير عن تحركاتهم وأنشطتهم، إنما كانت المأساة الأكبر فيما تضمنه بعض هذه التقارير التي كانت ترفع لرئيس الجمهورية شخصيا، مثل هذا التقرير عن الشيخة نظيرة التي طلب منها كاتب التقرير الدعاء لسيادة الرئيس، والتي قالت: "أنا دعيا له وقلبي داعي له، ده ملاك هو جالي وأنا باشوفه في الباطن وربنا راضي عنه". ويستمر التقرير المكتوب لسامي شرف سكرتير رئيس الجمهورية لشؤون المعلومات، ليطلب توفير سيارة خاصة لزيارة أحد الأضرحة لتدعو الله في مسجد صاحب الضريح لسيادة الرئيس، ويختم تقريره: "دمتم أخي العزيز سندا لنضالنا". ويكتب اسمه وتوقيعه، وليوقع عليه رئيس الجمهورية، بنفسه، بالموافقة وتوفير تذكرة قطار للشيخة نظيرة!!

وعودة إلى الأستاذ صلاح منتصر ومقالته (التاريخية!) عن "غزوة القضاء"، فيحكي الموقف المعروف بفوز المستشار ممتاز نصار والمستشار يحيى الرفاعى (من أساطين مؤتمر العدالة الأول الذي عقد سنة 1986م ولم يعقد بعده مؤتمر ثان) ومن معهما من رجالات القضاء الكبار في انتخابات نادي القضاة عام 1969م، وليصدر بعدها خمسة قرارات بقوانين تحمل الأرقام من 81 إلى 85، ليتم استبعاد 200 اسم، أولهم أعضاء مجلس إدارة نادي القضاة الذين أشارت التقارير أن لهم "نشاطا وطنيا"، وأكثر من نصف محكمة النقض، وبعض الذين اشتركوا في إصدار أحكام لم ترض عنها السلطة في ما عرف بعدها بــ"مذبحة القضاء".

انتهى كلام الأستاذ صلاح منتصر عن "غزوة القضاء"، والتي (في ما يبدو) لم تكن مجرد غزوة، كانت في حقيقة الأمر معركة كبرى أسست عميقا لما بعدها.

كيف حدث هذا كله؟ وكيف تزايد وتضاعف؟ والأفدح كيف استمر؟

كان البكباشي الجموح الطموح قد قام بأهم خطوة في الاستحواذ على السلطة، تأمين الجيش أولا،ثم إخراجه من الحكم ثانيا، فينجح في أولا بتعيين "أخيب" ضابط عرفته العسكرية المصرية (صديقه الأنتيم عبد الحكيم عامر والذي سيغتاله بعد ذلك) وزيرا للحربية، بعد ترقيته من رتبة بكباشي (مقدم) إلى رتبة لواء، ولكنه سيفشل في ثانيا ويترتب على أولا وثانيا هزيمة كل يوم (5 حزيران/ يونيو 1967م) بكل ما أخرجته وتخرجه إلى الآن؛ من هزائم اجتماعية وأخلاقية وعلمية وحضارية، وللموضوع تفاصيل سوداء ليست هي موضوع المقال.

وسيكون، عليه، إعمال آلة الاعتقال والتعذيب والإعدام في أهم تجمع إصلاحي منظم (الإخوان المسلمون)، فيترتب على ذلك نشوء أفكار التكفير والتطرف، وثقافة الزنازين والعمل السري المغلق، وسيكون، عليه، ضرب العلامة السنهوري عام 1954 وقت الأزمة الشهيرة، والذي كان رمز العدالة والقانون والقضاء في مصر الحديثة.. ضربه بالأحذية في قلب مجلس الدولة رمز وأيقونة "القضاء"؛ ليكون عبرة لهذا الحصن الحصين الذي عرف رجاله بالترفع والأنفة والكرامة، ليقضي بذلك على الضلع الثالث في مثلث العافية والقوة الوطنية في مصر الحديثة.

وعلى الرغم من السهولة والسرعة التي أنهى بها البكباشي جولته مع الجيش والإخوان، إلا أنه كان "لئيما" في الجولة الأهم والأخطر، القضاء، فتمهل حتى أتم اختراقه من داخله، وتكوين تنظيم سري في أركانه، ثم بدأ تنفيذ مخططه.

سنتذكر ديجول بطل التحرير في فرنسا، والذى كان أول سؤال سأله حين دخل باريس يوم 25 آب/ أغسطس 1944: هل القضاء بخير؟ فقالوا له: نعم، قال: إذن فرنسا بخير.

أضف تعليقك