بقلم: جمال الجمل
النائب البرلماني مصطفى بكري ليس مجرد إعلامي متطوع في صفوف الأنظمة على اختلافها، ولا مجرد نائب برلماني مصطنع، ولا مجرد متحدث "عرفي" للمسؤولين الكبار وللأجهزة الأمنية بالذات.. مصطفى بكري "حالة سياسية مزمنة"، ليس في عصرنا وفقط، لكنها تتناسخ وتتواجد في كل الأزمنة والعصور، ليس لها بلد منشأ ولا بيئة واحدة؛ لأنها عابرة للحدود والأماكن وإن كانت تتكاثر في بيئة الطغيان على حواف قصور الحكام، وتتغذى على النفاق والتحريض ضد معارضة الطاغية الذي يملك ويقمع أيا كان ما يول وما يفعل.
سافر بكري إلى صعيد مصر لبيع بضاعته من النفاق، وفي مؤتمر جماهيري ضمن جولاته لجلب "أنفار" يبايعون السيسي، وصف بكري من يمتنع عن الذهاب للانتخابات بأنه مثل "الجندي الذي يهرب من ميدان القتال ويرتكب جرما في حق مصر"، وقال "إن ساعة الحرب قد بدأت وإن المعركة جد لا هزل"، مشددا على فقراء مدينة "كوم امبو" الذين جيء بهم إلى المؤتمر، بضرورة الحضور بكثافة للانتخابات، لأنه "لا بد وأن نشاهد الطوابير أمام اللجان بالكيلومترات" في أول يوم للانتخابات الرئاسية، وليس في اليوميين التاليين. وفي معرض حديثه عن "معركة الجد لا الهزل" أقسم بكري "قسم ليبيدوس"، فقال حسب الترجمة الحرفية للقسم باللغة العربية: "والله لو أراد مني عبد الفتاح السيسي أن أقطع رأسي من أجل مصر سأقطعها"..
لكن ما هو "قسم ليبيدوس"؟ وما حكايته الأصلية؟
ليبيدوس هذا، كان نائبا من شيوخ مجلس النبلاء في روما أثناء حكم الطاغية الأشهر كاليجولا. وحدث أن كاليجولا تأخر يوما عن اجتماع النبلاء، ولما سألوا عنه، قالت خليلته سيزونيا: إنه أصيب بمرض في معدته ويرقد في فرشه بعد أن تقيأ دما، فبدأت "وصلة النفاق" بين النواب، أحدهم أعلن نذرا بأنه سيتبرع لخزانة الدولة بمبلغ 200 ألف دينار إذا تماثل كاليجولا للشفاء، وآخر تبرع بمبلغ أكبر.. وأراد ليبيدوس أن يستخدم طريقة مصطفى بكري الساحقة ويتفوق على الجميع فرفع يديه إلى السماء وقال مبتهلا: "أيها الإله جوبيتر لو طلبت مني أن أقطع رأسي من أجل شفاء عبدالفتاح كاليجولا سأقطعها".. "يا إلهى جوبيتر.. إنني أفديه بحياتي".
كان كاليجولا قد نهض من سريره واتجه ناحية قاعة الاجتماع، فسمع وعود ونذور المنافقين، فقال للأول: نذرك مقبول يا لوسيوس.. سيصلك وكيل الخزانة لتسلم المبلغ، وكرر القول للثاني والثالث، ثم سار خطوات ناحية مصطفى بكري الليبيدوسي، حتى اقترب منه تماما فعانقه وهو يقول له: لا أستطيع أن أصف لك مدى تأثري بكلامك يا ليبيدوس.. أتحبني إلى هذا الحد؟
قال ليبيدوس بعواطف جياشة: نعم يا سيدى القيصر، فأنت حامينا وراعينا ومن غيرك ستسقط الدولة وتعود الفوضى إلى روما من جديد، ومهما قدمت في سبيلك يبقى قليلا.
لم يكن كاليجولا قد وصل إلى درجة الهزل الذي وصل إليها حفيده عبد الفتاح خليل كاليجولا، فأخذ الكلام بقدر من الجدية حتى لا تتعود حاشيته الإسراف في "الكلام الفارغ" الذي يخدع أكثر ما ينفع، فعاد الطاغية لمعانقه النائب المنافق مرة ثانية وهو يقول: آآآخ من هذا الكلام الجميل يا محجوب يا ابن عبد الدايم.. إنه كلام رائع جدا ياليبيدوس، وروعته في مدى صدقه، ثم أشار إلى الحرس قائلا: لقد شُفيت وأصبح لجوبيتر دينا عند ليبيدوس.. خذوه وترفقوا به (لأنه يحبني)..
ارتبك ليبيدوس وسأل منزعجا، إلى أين يذهبون بي يا "دكر روما العظيم"؟
رد كاليجولا بهدوء حاسم: إلى الموت يا ليبيدوس، ألم تهبني حياتك فداء؟.. لقد قبلت هديتك.
فارق بين الجد والهزل يا مصطفى، فإذا لم تكن انتخاباتكم هزلية وكلماتكم هزلية فلنجرب مثلا تطبيق كلماتك، فالكلمات المجانية علامة النفاق، وبوابة التزلف والفساد، فأثبت لنا جديتك يا درش؛ لأن كاليجولا الذي تضحي برقبتك مقابل "أمر" منه، ليس بحكمة جده الطاغية الفيلسوف كاليجولا الكبير، ولن يبادر باختبار صدقك، لأنه كائن هلامي تغذى على الماء (10 سنوات)، ولما تحول من "طور الأميبا البدائية" في حقبة الماء إلى "طور السلطة الأزلية" صار يتغذى على الأكاذيب والخداع والنفاق، ولا يهمه إن كنت صادقا أو كاذبا، ربما لأنه يريد من كل منافق حوله أن يظل مجرد "أسفنجة لزجة" لتلميع الحذاء الذي يثير إعجاب ترامب، وليس أكثر من ذلك.
دولة الهزل تحتاج إلى اختبارات مأساوية لكشف الكذب، ووقف النفاق، فهل تتطاير رؤوس المنافقين قريبا، بكلماتهم المفارقة للعقل وللواقع؟
أظن أن التاريخ قدم من قبل تحذيرات كثيرة عن انقلاب الهزليات السخيفة إلى تراجيديات عنيفة.
أضف تعليقك