• الصلاة القادمة

    العصر 13:46

 
news Image
منذ ثانية واحدة

ثمة منهجان رئيسيان مختلفان، انطلاقا ونتائج، بالنسبة إلى قراءة الوضع الفلسطيني الراهن.

المنهج الأول، الأكثر شيوعا، ينطلق من قراءة الوضع الخاص في الجانب الفلسطيني ذاتيا، ثم خارجيا من جهة الحلفاء والمناصرين والداعمين. ويتبنى هذا المنهج من يمكن وصفهم بأعداء الشعب الفلسطيني، سواء أكانوا العدو الصهيوني أم مؤيدوه. ولكن هنالك من يتبناه ممن كانوا من مناصرية، وهم إما انقلبوا ضده أو انشغلوا عنه وتركوه لمصيره.

كل حرب نفسية يشنها عدو ضد خصومه تنطلق بإبراز نقاط ضعفه وسلبياته، وتزيد في إبراز قوة عدوه وإخفاء نقاط ضعفه وسلبياته. ومن هنا، فإن المنهج الأول في القراءة هو المتبنى من جانب العدو ومؤيديه لإقناع الشعب بأنه ضعيف ولا جدوى من المقاومة.

أما تبني هذا المنهج من قِبَل من انشغلوا عن الشعب الفلسطيني وتركوه لمصيره، فمن شأنه أن يساعدهم على تسويغ ما أحدثوه من انقلاب في الموقف، كما تسويغ ما حدث من انشغال عنه وعن القضية، وصولا إلى إدارة الظهر.

ثم هنالك طرف يأخذ بهذا المنهج الأول بالرغم من وقوفه في خندق الشعب الفلسطيني، والقضية الفلسطينية، وذلك بسبب ما يحسه من غضب إزاء ضعف الوضع الفلسطيني وسلبياته. وقد ظن أو اعتقد أن التركيز على الذات هو الطريق لمعالجة الضعف والسلبيات، بل هو، في نظره، الأسلوب الثوري وصولا إلى استمراء تبني شعار "يا وحدنا".

المنهج الثاني، ويفترض به أن يكون منهج القوى الناهضة المقاومة الساعية للتغيير، ومواجهة التحديات بشجاعة وخط سياسي وفكري صحيح. هذا المنهج يبدأ بقراءة حال العدو المسيطر، والبحث عما يعتريه وحلفاءه من ضعف وسلبيات وشقوق يمكن اختراقها أو الإفادة منها. ومن ثم لا يضع في أولوية تقديره للموقف (قراءة الوضع بكل جوانبه)، التركيز على ضعف جبهة الشعب الفلسطيني وسلبياتها، حتى لو كانت صارخة، سواء من ناحية الذاتي الفلسطيني، أم من ناحية من يُفترض بهم حلفاء له. وهنا في هذا الصدد يمكن التعلم من الآية الكريمة: "إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ" }سورة النساء، الآية 104{.

صحيح أن لهذا المنهج غاية تتمثل بتقديم تقدير للموقف يسمح بالصمود وإمكان الصمود حتى حين تكون الأوضاع في أسوأ الحال، ويسمح بالانتقال إلى الهجوم الجزئي أو الأكبر فالأكبر إذا كانت الأوضاع (موازين القوى) في حالة ما بين بين، أو في الأدق في حالة شبه توازن استراتيجي، أو ما هو قريب منه.

إن هذا المنهج ضروري في الحالات الثلاث: (1) أي في الحالة التي يشن فيها العدو الهجوم العام، أو يكون الوضع (2) في حالة من شبه التوازن الاستراتيجي، أو (3) في حالة هي أقرب من الحالة الثانية سلبا أو إيجابا. وهي الحالات التي يفرق بينها بلغة الاستراتيجية بالنسبة إلى الشعب أو قوى التغيير (1) حالة الدفاع الاستراتيجي والهجوم التكتيكي (2) حالة شبه التوازن الاستراتيجي (كل طرف بحاجة إلى هدنة استعدادا للهجوم العام) (3) حالة الهجوم الاستراتيجي العام.

أما تبني المنهج الأول في الحالات الثلاث فمدمر في حالة الصمود والدفاع، ومقعد في حالة الهجوم وفي أثناء الفرص السانحة كما في حالات بين بين، أو شبه التوازن، أو الانتقال إلى الهجوم العام.

طبعا، أن يكون للمنهج الثاني غاية، أو يكون ضرورة، لا يعني أن يُبنى على التفاؤل السطحي أو تقديم صورة وهمية مُفتعلة، بقصد التشجيع، وتجنب ما يحمله المنهج الأول من خلل وسلبيات، علما أن هذه الصفات روح التفاؤل وإبراز نقاط ضعف العدو ليست بالصفات الحميدة بحد ذاتها فحسب، وإنما أيضا، ألا تعتبر هي السبب الأول والأخير وراء تبني المنهج الثاني، وذلك لأن المطلوب أن يقوم المنهج الثاني على الحقائق وعلى الموضوعية ويثبت أن تقديره للموقف كان صحيحا. وهذا أمر ممكن بل ومتوفر دائما؛ لأن ما من قوة مهما بلغت قدرتها، أو سلطتها، أو تحكمها، إلاّ وتعتريها نقاط ضعف وسلبيات. إذ ما من كمال هنا، بل هي سنة جارية تنطبق على كل حالات الصراع عموما، وهي في الحالة الفلسطينية كانت قائمة دائما، وهي الآن أشد ما تكون وضوحا وبروزا. كيف الآن، بصورة خاصة؟

ولتكن البداية بقراءة وضع كل من أمريكا وأوروبا وسيطرتهما على العالم، وذلك لأنهما كانتا العامل الأهم والأكثر حسما في تبني المشروع الصهيوني، وتمكينه من تحقيق هجرة يهودية إلى فلسطين وحمايتها، وتأمين قرار دولي (قرار التقسيم رقم 181 لعام 1947) لإقامة الكيان ودولته وجيشه، وتهجير ثلثي الشعب الفلسطيني والسيطرة على 78 في المئة من أرض فلسطين، ثم السيطرة الكاملة عليها، وما تمتع به من دعم عسكري ومالي وسياسي، وفي المقابل ما أمن له، من تجزئة عربية، وضعف عربي، لكي يصل إلى ما وصل إليه من قوة وقدرة.

أصبح من المسلم به أن سيطرة كل من أمريكا وأوروبا على العالم قد تزعزعت، وأصبحت أضعف كثيرا مما كانت عليه في السابق، مما يسمح بالقول إن الكيان الصهيوني أصبح أضعف كثيرا عما كان عليه في السابق بسبب ضعف أوروبا وأمريكا، وما يجره ذلك الآن من فوضى عالمية، وما يفسحه من فرص لاختراق معادلات المراحل السابقة التي مكنت للكيان الصهيوني.

أما على مستوى الكيان الصهيوني، فيكفي أن يُلاحَظ هزيمة جيشه في أربع حروب (2006 في لبنان و2008/2009 و2012 و2014 في قطاع غزة)، واضطراره على الانسحاب، بلا قيد أو شرط، من جنوبي لبنان عام 2000، كما من قطاع غزة عام 2005. وقد توازى مع هذه الهزائم تراجع سياسي في مستوى القيادات، وانجراف وراء مجتمع الاستهلاك، وتعمق للتناقضات الداخلية على مستوى الكيان.

الأمر الذي يسمح بالقول إن الكيان الصهيوني ككل أصبح أضعف عسكريا وسياسيا واجتماعيا و"أخلاقيا"، مما كان عليه في أية مرحلة سابقة، وكذك حاله على مستوى الحماية الدولية المباشرة التي كان يتمتع بها منذ 1917 حتى نهاية القرن العشرين.

البعض يحاول أن ينفي ما تقدم استنادا إلى ما أصبحت تتمتع به حكومة نتنياهو من هرولة بعض الدول العربية للتطبيع معها، أو السعي حتى للتحالف وإياها ضد إيران. ولكن هذه الهرولة تجيء في موازين قوى تتسم يضعف الدولة القطرية العربية، ولا سيما دول الهرولة. وهذا الضعف يجعلها أضعف في كبت ثورات ومقاومات الشعب الفلسطيني، كما كان يحدث في المراحل السابقة في القرن العشرين. فهذا الضعف سيف ذو حدين؛ أحدهما في مصلحة الكيان، وثانيهما في مصلحة من يناهضون الكيان ويقاتلونه، فلذلك يصعب الاستناد إلى هذا البعد (الهرولة) في مصلحة المنهج الأول الذي يبالغ في قوة العدو وفي ضعف الشعب الفلسطيني.

فعلى سبيل المثال، عندما اندلعت انتفاضة القدس الشعبية الواسعة ضد وضع الأجهزة الإلكترونية على أبواب المسجد الأقصى، وجدت حكومة نتنياهو نفسها معزولة وضعيفة، واضطرت إلى التراجع بعد 12 يوما من العناد والمكابرة. ولم تنفعها دول الهرولة التي أصبحت أضعف أمام شعوبها وأمام الأمة، بل راحت تضغط على حكومة نتنياهو "الصديقة" لإنهاء الأزمة.

إن معركة المواجهة التي خاضتها الانتفاضة المقدسية خلال معركة الأجهزة الالكترونية على أبواب الأقصى، تعطي دليلا أوليا على ميزان القوى الجديد، وتؤكد صحة المنهج الثاني الذي ينطلق من قراءة وضع العدو، وما يعانيه من ضعف وأزمات، كما من وضع القوى الداعمة له وما أصابها من تراجع وضعف على المستويين الدولي والعربي.

صحيح أن من الممكن لمعترض هنا القول إن ما حدث في معركة الأقصى حالة خاصة، ولا يجوز تعميمها، أو توقع تعميمها، في قراءة موازين القوى، وتقدير الموقف، وصحيح أن من الممكن له أن يحتج ببعض جوانب الوضع الفلسطيني والعربي، مستندا إلى المنهج الأول في تقدير الموقف ليقلل من أهمية، أو جدية ما يقود إليه المنهج الثاني من استنتاجات ونتائج، لكن لا بد من أن تكون الكلمة الفصل للمستقبل القريب أو المتوسط في الحكم على أي المنهجين هو الأصح والأدق.

ولكن يجب أن يُلاحَظ هنا قبل انتظار امتحان المستقبل أن المنهج الأول يقود إلى التقاعس واليأس وعدم خوض النضال بالشجاعة واليقين المطلوبين، كما أن المنهج الثاني يقود إلى البحث عن الاستراتيجية الأفضل لخوض مواجهة تحمل فرصا لانتصارات جزئية، وإن لم تصل إلى الانتصار العظيم ضمن معادلة موازين القوى الراهنة.

أضف تعليقك