بقلم: أحمد مولانا
نشرت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في عام 2012 تحديثا لدليل تحليل التمرد الصادر مطلع ثمانينات القرن الماضي، من أجل مساعدة محللي الاستخبارات والمختصين في تحليل وفهم وتقييم التمردات التي تقع ضمن دوائر اهتمامهم، مما ييسر استشراف مستقبلها، وتقديم توصيات بشأن كيفية التعامل معها.
وجاء نشر هذا الدليل ضمن اعتناء المؤسسات الحكومية الأمريكية بقضايا التمرد ومكافحته، إثر تعرض الجيش الأميركي لاستنزاف بشري وعسكري واقتصادي كبير في العراق وأفغانستان عقب غزوه لهما. ونظرا لأن هذا الدليل الهام لم يُترجم للعربية بعد، فقد آثرت المشاركة في ترجمته، التي من المفترض أن تٌنشر قريبا بإذن الله. وسأسعى في هذه التدوينة للتطرق لأبرز ما ورد فيه.
قدم الدليل في بدايته تعريفات موجزة لبعض المصطلحات المتماسة مع موضوعه مثل التمرد، ومكافحة التمرد، وحرب العصابات، والمليشيا، والإرهاب، من أجل التفريق بينها، ومع تنويهه إلى أن إطلاق وصف التمرد على حركة ما لا يعني بالضرورة إصدار حكم معياري على مشروعية الحركة، إنما هو وصف لطبيعة الصراع.
وقد عَرّف الدليل "التمرد" بأنه صراع (سياسي-عسكري) ممتد يهدف لإزاحة أو تدمير شرعية الحكومة المُنَصبة أو قوة الاحتلال، بغرض التحكم الكامل أو الجزئي في موارد إقليم معين، عبر استخدام قوى عسكرية غير نظامية، ومنظمات سياسية غير شرعية. وأكد أنه لا توجد تمردات متماثلة. ولكن غالبا ما يوجد بعض التشابه بين التمردات في توليفة من الخصائص والتكتيكات والأهداف. كما يمر أغلبها بمراحل نمو متشابهة عبر دورة حياته.
التصنيفات الشائعة للمتمردين:
مع مراعاة أن العديد من حركات التمرد تولف بين نماذج متنوعة، أو تتطور تدريجيا عبر مسيرة الصراع. إلا أنه يمكن تصنيفها بعدة طرق، من أبرزها:
1- التصنيف عبر الأهداف إلى تمردات:
* ثورية: تهدف لاستبدال النظام السياسي القائم بنظام مختلف تماما.
* إصلاحية: تهدف إلى إجبار الحكومة على تغيير سياساتها، والشروع في إجراء إصلاحات.
* انفصالية: تسعى للاستقلال بمنطقه معينة.
* مقاومة: تسعى لإجبار قوة الاحتلال على الانسحاب من منطقة معينة.
* تجارية: يُحفزها السعي لاكتساب الثروة والاستحواذ على الموارد المادية.
2- التصنيف عبر التركيز على الهيكل التنظيمي:
ومدى اعتماد المتمردين على الجانب السياسي والعسكري في صراعهم، إلى تمردات:
* مُدارة سياسيا: يُطور خلالها المتمردون هيكلا سياسيا معقدا سواء قبل أو بالتزامن مع البدء في تنفيذ عمليات عسكرية ضد الحكومة. ويكون المكون العسكري في هذا الصنف من التمرد تابعا للقيادة السياسية.
* مدارة عسكريا: تغلب في هذا الصنف الأعمال العسكرية ضد الحكومة على الحراك السياسي للجماهير. ويبدأ هذا الصنف من التمرد نشاطه ببنية سياسية صغيرة وضعيفة، وغالبا ما يسيطر عليه القادة العسكريون.
* مُدارة بشكل تقليدي: يعتمد هذا الصنف من التمرد على الروابط العشائرية والقبلية والعرقية والدينية، الموجودة مسبقا. ويُنظم على شكل هرمي اجتماعي يحل محل الهياكل السياسية والعسكرية.
* الخلايا الحضرية: يتمركز في المناطق الحضرية، ويفتقر إلى الهياكل القيادية الهرمية السياسية والعسكرية، ويُنظم في خلايا صغيرة شبه مستقلة. ويرتكز بشكل كبير على الإرهاب أكثر من أي نوع آخر من التمردات.
دورة حياة التمرد:
كل تمرد يختلف عن الآخر، حيث يتشكل بواسطة مجموعة محددة من عوامل الصراع، مثل الثقافة، والمظالم، والتاريخ. ولكن التمردات غالبا ما تتطور عبر مراحل نمو مشتركة ومحددة. ولن يمر كل تمرد بكل مرحلة، فبعض التمردات ستتخطى بعض المراحل، والبعض الآخر سيتراجع ليعود للمراحل الأولى، والبعض سينتهي قبل الوصول للمراحل النهائية. كما أن الوقت المطلوب لعبور مرحلة معينة من المرجح أن يختلف من تمرد إلى آخر. ويمكن تصنيف مراحل التمرد عبر 4 مراحل:
1-مرحلة ما قبل التمرد:
من الصعب اكتشاف الصراع في هذه المرحلة، لأن معظم الأنشطة تكون سرية، ولأن التمرد لم يعلن بعد عن حضوره عبر ممارسة العنف. وأثناء هذه المرحلة تبدأ حركة التمرد في التشكل: فتبزغ القيادة، ويبرز المتمردون المظالم الواقعة عليهم، ويظهرون هوية المجموعة التي ينتمون لها، وتبدأ عملية التجنيد وتدريب الأعضاء، وتخزين الأسلحة والمؤن.
ويعتبر رد الفعل الحكومي في هذه المرحلة وما تلاها من أكثر العوامل أهمية في تحديد ما إذا كان هذا الحراك سيتطور لتمرد أم لا. فخلال هذه المراحل الأولية، تكون مجموعة التمرد المحتمل ضعيفة، وغير منظمة، وعرضة للتدابير الحكومية المضادة. ومن المرجح أن تتعامل الحكومة معها بشكل خاطئ سواء بالتغاضي عن المشكلةً أو بالفشل في علاج المظالم التي تؤجج الاضطراب. مما يعطي المتمردين حيزا مناسبا لتنظيم صفوفهم، كما قد تمارس الحكومة رد فعل مبالغا فيه، وتبطش بقوة، مما ينفر السكان، ويولد الدعم للمتمردين.
2-مرحلة الصراع الأولي:
يدخل النضال مرحلة الصراع الأولى عندما يبدأ المتمردون في استخدام العنف. وغالبا ما توفر هذه الهجمات الإنذار الأول للمحللين عن احتمال وجود تمرد. ومع ذلك كثيرا ما تتجاهل الحكومة المستهدفة أفعال المتمردين معتبرة إياها من جنس أعمال قطاع الطرق والمجرمين، مما يزيد من خطر أن تستخدم الحكومة وسائل غير فعالة لمواجهة الوضع.
وهذه هي المرحلة الأكثر خطورة للمتمردين، إذ صار حضورهم محسوسا عبر شنهم لأولى عملياتهم، لكنهم ما زالوا ضعفاء ومفتقدين للتنظيم الجيد. ويجب أن توازن حركة التمرد في مراحلها الأولى بين الحاجة إلى شن هجمات لإثبات حيويتها، والدعاية لقضيتها، وحشد المؤيدين، وبين استفزاز رد فعل حكومي مفرط. وخلال هذه المرحلة يساعد فهم خصائص، وقدرات، وأفعال كل من المتمردين والحكومة، المحللين على تقييم مدى احتمالات انتهاء الصراع الأولي أو توسعه ليصبح تمردا شاملا.
وخلال هذه المرحلة والمراحل التالية، يهتم المختصون بملاحظة أي دوافع للتنافس بين أعضاء مجموعة التمرد الواحدة أو بين المجموعات المختلفة داخل ائتلاف المتمردين. فعدم الانسجام يمكن أن تستغله الحكومة لتشجيع الانشقاقات، وقد يوفر البصيرة الكافية لتحديد أي الأفراد أو المجموعات أكثر انفتاحا لعقد مفاوضات تسوية معهم.
3-مرحلة التمرد الصريح:
في هذه المرحلة، يتضح بلا شك أن الحكومة تواجه تمردا. فسياسيا يسعى المتمردون لتقويض سلطة الدولة عبر العمل على إزاحتها، وقد يكونوا "حكومة ظل" تشابه الهياكل الإدارية للدولة، وقد ينشئوا مناطق "محظورة" يتم إخراج ممثلي الحكومة منها.
أما عسكريا، فيشن المتمردون هجمات أكثر تكرارا، وعنفا، وتعقيدا، ويشارك فيها عدد أكبر من المقاتلين. وتشمل المؤشرات التي تدل على نمو قوة المتمردين العسكرية: التغييرات في حجم وتكوين قوة المتمردين، وزيادة معدل هجماتهم، وحجمها، وتطورها، وانتشارها الجغرافي. والزيادة في كمية ونوعية تسليحهم. واستخدامهم لمعدات وأساليب متطورة للاتصالات، ومدى اختراقهم للجيش والشرطة.
وخلال هذه المرحلة تستخدم الحكومة مقاربات لمكافحة التمرد، يمكن تصنيفها بالنظر إلى تركيزها الأساسي وفقا للتالي:
* مقاربة "مواجهة العدو" تشدد على تدمير المقاتلين والبنية التحتية للمتمردين.
* مقاربة "اكتساب الدعم الشعبي" تشدد على تأمين السكان وتعزيز دعمهم للحكومة؛ وتكون خلالها عمليات تدمير المتمردين- رغم أهميتها-أمر ثانوي.
* المقاربة الاستبدادية تسعى لمعاقبة المتمردين والسكان الذين يدعمونهم، لجعل تكلفة دعم المتمردين لا تطاق.
4-مرحلة الحل:
تحرز بعض حالات التمرد تقدما مطردا خلال مراحل دورة حياتها؛ وفي حين تنمو العديد من الحالات على شكل طفرات، فقد تتراجع أحيانا إلى مراحل مبكرة؛ بينما البعض الآخر قد يعلق في مرحلة واحدة لعقود. ونظريا، سيصل التمرد في نهاية المطاف إلى خاتمته، إما بانتصار المتمردين، أو عقد تسوية تفاوضية، أو بانتصار الحكومة. وقد انتهت36 % من التمردات بعد الحرب العالمية الثانية بانتصار المتمردين بعد مضي فترة صراع بلغ متوسطها قرابة10 أعوام. بينما انتصرت الحكومات في 36% من الحالات، بعد انقضاء فترة صراع بلغ متوسطها 12عاما، وكان لدى 28% نتائج متباينة، لأن المتحاربين توصلوا إلى تسويات تطلبت من الجميع تنازلات مهمة.
بالإضافة إلى ما سبق حرص الدليل على تقديم مؤشرات مهمة تركز على تقييم كل مرحلة من مراحل التمرد بشكل شامل، ليقدم بذلك مساعدة قيمة ستفيد بكل تأكيد المهتمين بتقييم واستشراف مستقبل الصراعات الحالية التي تشهدها المنطقة العربية حاليا.
- نقلا عن مدونات الجزيرة
أضف تعليقك