• الصلاة القادمة

    العصر 13:46

 
news Image
منذ ثانية واحدة

 تربى في ظل العقيدة الإسلامية حتى أصبح من النماذج التي آمنت بإله واحد لا شريك له، وأن الأمر كله بيده، فعاشت للحق، وتمسكت به، وصبرت عليه، وجاهدت الباطل، ونهت عنه، وتحملت تكاليفه العسيرة برضا وطمأنينة؛ لأنها تعلم حق العلم أن العطاء من الله كبير، {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111].

ولعلَّ أروع هذه البطولات تلك المواقف الخالدة التي سجلها العلماء من الأمراء والحكام الذين خرجوا عن جادة الأمر، وغرتهم الحياة الدنيا، فاتبعوا أهواءهم حرصًا على الحكم والسلطان، فقد التزم أولئك العلماء بنصحهم وتصويبهم وصدهم عن الظلم وتبصيرهم بالعاقبة، ولم تأخذهم في ذلك لومة لائم؛ لأنهم امتثلوا لقول النبي صلى الله عليه وسلم يخبرهم: "سيكون أمراء فسقة جورة، فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فليس مني وليس بوارد على الحوض".

فخافوا أن يُنزِل الله عليهم سوط عذاب، ويحشرهم مع الظالمين، ويكون مثلهم كمثل الحمار يحمل أسفارًا؛ لذلك قاموا بالواجب خير قيام، وألزموا أنفسهم هدي النبي عليه السلام، فلم يتركوا ظالمًا يتعدى حقوق الله، متجبرًا في الأرض إلاَّ وقفوا في وجهه، وقالوا ما يُرضِي ربهم، وإن أسخط الناس عليهم، ومن بين هؤلاء الإمام الحسن البصري رحمه الله تعالى، واسمه: الحسن بن يسار ، يلقب بـالبصري، ويُدعى تارة: بـابن أبي الحسن، وكنيته رحمه الله: أبو سعيد .

شجاعة الحسن البصري وجهاده
كان يرافق بعض المشهورين بالشجاعة، كـقَطَرِي بن الفجاءة ، والمهلب بن أبي صُفْرة ؛ ولذلك تعلم الشجاعة وتربى عليها.
 
قال هشام بن حسان : كان الحسن أشجع أهل زمانه.
 
وقال جعفر بن سليمان : كان الحسن من أشد الناس، وكان المهلب إذا قاتل المشركين يقَدِّمُه.
 
فهذه ميزة في الحسن رحمه الله، وهو معروف برقة القلب وبالوعظ، ولو سألت إنساناً وقلت له: ما هو انطباعك عن الحسن ؟ فسيقول لك: هو زاهد وواعظ. وهذا صحيح؛ لكنه قلَّما يُعرف بأن الحسن كان رجلاً شجاعاً مقداماً مقاتلاً، وكان يُقَدَّم في القتال، كان قوي البنية، شديد البأس، وهذا يدل على أن الإنسان الزاهد الواعظ ليس من طبعه الضعف، ولا تلازم بين ضعف البدن والزهد وأن يكون واعظاً، فقد يكون الإنسان واعظاً رقيق القلب، وهو من أشجع الشجعان، ولا تعني الشجاعة وقوة الجسد غلظة القلب بالضرورة أبداً.
 
كما أن رقة القلب وكثرة البكاء من خشية الله تعالى والوعظ لا تعني أن الواعظ يجب أن يكون ضعيف البدن، لا. فهذا الحسن رحمه الله قوي البنية، ومع ذلك فهو رقيق القلب للغاية.
 
وأما من جهة الجهاد، فإنه رحمه الله كان كثير الجهاد ويخرج للقتال، ولذلك لا انفصام بين العالم والمجاهد، لا انفصام بين الوعظ والجهاد، كلها أمور تجتمع في شخصيات السلف رحمهم الله.
 
جرأة الحسن البصري وصدعه بالحق، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر
أما ما كان عليه من الجرأة والصدع بالحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فله مواقف، منها:
 
 موقف الحسن مع عمر بن هبيرة
جاء عن علقمة بن مرثد أنه قال: لما وَلِي عمر بن هبيرة العراق ، أرسل إلى الحسن وإلى الشعبي ، فأمر لهما ببيت، وكانا فيه شهراً، ثم إن الخصيَّ -وكان عند الأمراء هذا النوع من الناس- غدا عليهما ذات يوم، فقال لهما: إن الأمير داخل عليكما، فجاء عمر بن هبيرة -الأمير- يتوكأ على عصاً له، فسلم ثم جلس معظماً لهما، فقال: إن أمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك يُنْفِذُ كُتُباً، أعرف أن في إنفاذها الهلكة -يعني: يعطيني أوامر في الكتب لو أنفذتها ففي إنفاذها الهلكة- فإن أطعته عصيت الله، وإن عصيته أطعت الله، فهل تريان لي في متابعتي له فرجاً؟ أي: هل أنا مكره؟
 
فقال الحسن : يا أبا عمرو ! -وهو الشعبي، أجب الأمير، فتكلم الشعبي ، فانحط في حِيَل ابن هبيرة ، -يعني: كأنه يلتمس له أعذاراً وأشياء- فقال: ما تقول أنت يا أبا سعيد ؟!
 
قال: أيها الأمير! قد قال الشعبي ما قد سمعتَ.
 
قال: ما تقول أنت يا أبا سعيد؟
 
فقال: يا عمر بن هبيرة ! يوشك أن يتنزل بك ملك من ملائكة الله تعالى، فظ غليظ، لا يعصي الله ما أمره، فيخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك.
 
يا عمر بن هبيرة ! إن تتقِ الله يعصمك من يزيد بن عبد الملك ، ولا يعصمك يزيد بن عبد الملك من الله عز وجل.
 
يا عمر بن هبيرة ! لا تأمن أن ينظر الله إليك على أقبح ما تعمل في طاعة يزيد بن عبد الملك نظرة مقت، فيغلق بها باب المغفرة دونك.
 
يا عمر بن هبيرة ! لقد أدركتُ أناساً من صدر هذه الأمة كانوا والله على الدنيا وهي مقبلة أشد إدباراً من إقبالكم عليها وهي مدبرة.
 
يا عمر بن هبيرة ! إني أُخوِّفك مقاماً خوَّفَكَهُ الله تعالى، فقال:  ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ  [إبراهيم:14].
 
يا عمر بن هبيرة ! إن تكُ مع الله تعالى في طاعته كفاك بائقة يزيد بن عبد الملك ، وإن تكُ مع يزيد بن عبد الملك على معاصي الله وكََلَكَ الله إليه.
 
قال: فبكى عمر بن هبيرة ، وقام بعبرته. أي: أن البكاء متواصل -متأثر- وقام من المجلس ولا تزال عبرته فيه.
 
هذا ما كان من موعظة الحسن لهذا الأمير، وهذا كلام نادر حتى في لفظه، وفي طريقته وأسلوبه.
 
ولذلك من المهم أن نتعلم الأسلوب، ومثل هؤلاء العظماء ينبغي أن نتشبه بهم في أساليبهم.
 
وقد رُوِيَت هذه القصة بسياق آخر: أن عمر بن هبيرة الفزاري والي العراق لما دخل في أيام يزيد بن عبد الملك، استدعى الحسن البصري ومحمد بن سيرين والشعبي في سنة [103هـ] وقال: إن يزيد خليفة الله استخلفه على عباده، وأخذ عليه الميثاق بطاعته، وأخذ عهدنا بالسمع والطاعة، وقد ولاني ما ترون، فيكتب إليَّ بالأمر من أمره، فأقلده ما تقلد من ذلك الأمر، فما ترون؟! -إذا أمرني بشيء فيه معصية مثلاً؟-.
 
فقال ابن سيرين والشعبي قولاً فيه تَقِيَّة.
 
فقال ابن هبيرة : ما تقول يا حسن ؟
 
فقال: يـابن هبيرة ! خَفِ الله في يزيد ، ولا تخَفْ يزيد في الله.
 
إن الله يمنعك من يزيد ، وإن يزيد لا يمنعك من الله.
 
وأُوْشِكَ أن يُبعث إليك ملَك فيزيلك عن سريرك، ويخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك، ثم لا ينجيك إلا عملك.
 
يـابن هبيرة! إن تعص الله فإنما جعل الله هذا السلطان ناصراً لدين الله وعباده، فلا تركبن دين الله وعباده بسلطان الله، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
 
فأجازهم ابن هبيرة ، وأضعف جائزة الحسن .
 
فقال الشعبي لـابن سيرين : سَفْسَفْنا له، فسَفْسَفَ لنا.
 
 موقف الحسن مع الحجاج
 
الموقف من الحجاج لا شك أنه موقف صعب جداً؛ لأن الحجاج كان يقتل على أتفه وأدنى سبب، واخترع أساليب في التعذيب، وبدأ بأشياء من الظلم فتح بها أبواباً شنيعة، وكانوا أحياناً يفعلون بالناس أفعالاً لا تخطر بالبال، مثل: السلخ، يأتون بإنسان يسلخونه، يسلخون جلده عن سائر جسده سلخاً، وربما ولَّوا ذلك لبعض الكفرة، كما أن بعض أهل السنة أتى به أحد هؤلاء الظلمة، فوَلَّى سلخه ليهودي، قال لليهودي: اسلخه، فبدأ بسلخه من الرأس، حتى أن اليهودي رحمه، فضربه بالسكين في قلبه فمات، رحمه من إكمال السلخ.
 
فكان يحصل ظلم عظيم، وخصوصاً ممن يبطش من أمثال الحجاج!
 
بعث الحجاج بن يوسف الظالم إلى الحسن وقد هَمَّ به -نوى له نية سوء- فلما دخل عليه، وقام بين يديه الحسن ، قال: يا حجاج ! كم بينك وبين آدم من أب؟ قال: كثير. قال: فأين هم؟ قال: ماتوا. فنكس الحجاج رأسه وخرج الحسن.
 
موعظة بكلمات يسيرة جداً، مثل هؤلاء ربما لا يمكن الكلام معهم، فسؤالان لخص بهما المسألة كلها، انتهت المهمة، وهي بهذه البساطة، والرجل إذا كان صاحب عبادة ودين؛ فإن الله سبحانه وتعالى يلقي في قلوب الأعداء رهبته فلا يجرءون عليه.

أضف تعليقك