تمر الأمة الإسلامية في هذا التوقيت بظروف صعبة ومأساة، فهى بحاجة إلى من يجدد فيها روحها ويثبت فيها قيمها، ويعلي فيها من شأن مبادئها وثوابتها.
ويقدم لكم "الشرقية أون لاين" سلسلة من الأئمة الذين جاهرو بكلمة حق في وجة السلاطين المستبدة وعلماء السلطان الذين باعوا دينهم بدنياهم.
الإمام مصطفى المراغي
ولد الشيخ محمد مصطفى المراغى فى التاسع من مارس سنة 1881م فى مدينة المراغة بمحافظة سوهاج، حفظ القرآن فى صغره، وتلقى بعض العلوم والمتون على والده، ثم ذهب إلى الأزهر الشريف، وأعجب بفكر الإمام محمد عبده الذى أدخل للأزهر العلوم الفكرية والأدبية، وانتفع بدروسه فى التاريخ والإجتماع والسياسة، وتوثقت صلته به، وصار على نهجه فى الإصلاح والتجديد فيما بعد.
وتتلمذ المراغي على محاضرات الأستاذ الإمام محمد عبده في تفسير القرآن، وتأثر بمنهجه في التوحيد وما يراه تنقية للعقائد الإسلامية من ترف المتكلمين القدامى.
تخرج الشيخ المراغى بعد حصوله على العالمية مبكراً عام 1924 بتشجيع من استاذه محمد عبده الذى ناقشه فيها .. نالها وهو فى الرابعة والعشرين من عمره، وهى سن صغيرة بالنسبة لعلماء الأزهر الذين كانوا يحصلون عليها فى الثلاثينيات والأربعينيات من العمر، والكثير منهم يخفق فى الحصول عليها بعدما يقضى فى الأزهر عمراً طويلاً ، وفى نفس الوقت الذى تخرج فيه، رشحه الأستاذ محمد عبده ليكون قاضياً بمدينة دنقلة بالسودان، فاستمر فى عمله مدة ثلاثة سنوات، ثم قدم استقالته بسبب خلافه المستمر مع الحاكم العام الانجليزى للسودان ، ورجع ثانية إلى السودان قاضيًا لقضاة السودان، وصمم أن يصدر خديو مصر المسلم أمراً بذلك، لأنه ولى أمره الشرعى، أما الانجليز فهم غزاة مغتصبون، لم يرض أن يعمل بقرار منهم.
عاد الشيخ المراغي من السودان عام 1919 بعد أن مكث فيه منذ عام 1908، وتولى فى مصر بعض المناصب القضائية.
مواقف مشرفة
كان له فى السودان بعض المواقف المشرفة والجريئة، حيث أنه لما أرادت حكومة السودان تعديل لائحة المحاكم الشرعية بالسودان ، تمسك المراغى بأن من سلطته أن يختار للقضاة الآراء الفقهية التى يحكمون بها، وأبى السكرتير القضائى قبول هذا، وأصر الشيخ على رأيه ، واحتكما إلى الحاكم العام ،فنصر الشيخ على خصمه ، ونفذ له ما أراد، فالشيخ كان يعمل على ترقية القضاء بالسودان ، فقد أشرف على القسم الشرعى من "كلية غوردون" ، وزوده بأساتذة من العلماء المصريين الممتازين من الأزهر ودار العلوم ، وبهذا نهض القضاء وكرامة القضاة.
عندما تولى مشيخة الأزهر الشريف عام 1928، ألف لجاناً برئاسته لدراسة قوانين الأزهر ومناهج الدراسة فيه، وعمل على تنقيح هذه القوانين والمناهج، وأهتم بالدراسات العليا، فاقترح إنشاء ثلاثة كليات عليا تتخصص الأولى فى دراسة العلوم العربية، والثانية فى علوم الشريعة، والثالثة فى أصول الدين، وتم تنفيذ ذلك فى عهد خلفه الإمام الأكبر محمد الأحمدى الظواهرى، وقد كانت للمراغى آمالاً كبرى يسعى لتحقيقها فى تطوير الأزهر، ولكن العقبات وقفت فى طريقه وحالت بينه وبين تنفيذ هذه الآمال، فقدم استقالته فى 10أكتوبر سنة 1929.
وعاد المراغي للمشيخة مرة أخرى فى أبريل سنة 1935، مؤيداً من العلماء والطلبة والحكومة، وكانت من مواقفه المشرفة أيضًا موقفه من الحرب العالمية الثانية، حيث رفض الإمام المراغي فكرة اشتراك مصر في هذه الحرب سواء بالتحالف أو التعاون مع الإنجليز، أو التعاون مع الألمان للتخلص من الاحتلال البريطاني، كما أعلن الإمام المراغي موقفه صراحة بقوله: "إن مصر لا ناقة لها ولا جمل في هذه الحرب، وإن المعسكرين المتحاربين لا يمتان لمصر بأي صلة...". وقد أحدثت كلة الإمام المراغي ضجة كبيرة هزت الحكومة المصرية، وأقلقت الحكومة الإنجليزية، والتي طلبت من الحكومة المصرية إصدار بيان حول موقف الإمام المراغي باعتباره شيخ الأزهر من هذه الحرب ومن الحكومة الإنجليزية.
فما كان من رئيس الوزراء المصري في ذلك الوقت حسين سري باشا إلا أن قام بالاتصال بالشيخ المراغي، وخاطبه بلهجة حادة طالبا منه أن يحيطه علما بأي شيئا يريد أن يقوله فيما بعد حتى لا يتسبب في إحراج الحكومة المصرية. فرد عليه الإمام المراغي بعزة المؤمن الذي لا يخاف إلا الله قائلا : "أمثلك يهدد شيخ الأزهر؟" وشيخ الأزهر أقوى بمركزه ونفوذه بين المسلمين من رئيس الحكومة، ولو شئت لارتقيت منبر مسجد الحسين، وأثرت عليك الرأي العام، ولو فعلت ذلك لوجدت نفسك على الفور بين عامة الشعب".
وبعد فترة هدأت العاصفة لأن الإنجليز أرادوا أن يتفادوا الصراع مع الشيخ المراغي حتى لا يثير الرأي العام في مصر ضد القوات البريطانية المحتلة في مصر.
وقد تزعم الإمام المراغي حملة لجمع تبرعات في مصر لصالح المجاهدين في السودان الذين يقاومون الاحتلال البريطاني، وبلغت حصيلة التبرعات ستة آلاف جنيه مصري آنذاك تقدر اليوم بحوالي ستة ملايين جنيه مصري.
وقد وهنت صحة الشيخ محمد مصطفى المراغى فى أواخر حياته ودخل مستشفى المواساة، وفى أثناء مرضه زاره الملك فاروق وحاول استصدار فتوى منه تحرم زواج الملكة فريدة بعد طلاقها منه، فرد عليه قائلًا :"إن المراغى لا يستطيع تحريم ما أحله الله" ، وقد لقى ربه ليلة الأربعاء 14رمضان سنة 1364هـ الموافق (22اغسطس 1945).
أضف تعليقك