فوجئت حينما قرأت لوزير الخارجية السعودي عادل الجبير أن الحركة الإسلامية هي من نشر الإرهاب في السعودية، فتعجبت كثيرا، وتذكرت يوم أن سافرت إلى السعودية للتدريس في إحدى جامعاتها منذ ما يقرب من ثمانية عشر عاما، وكان أول مقرر أسند إليّ لتدريسه؛ مادة للثقافة الإسلامية تعتبر متطلبا جامعيا على كل الطلاب أيا كان تخصصهم.
وفرحت بهذه المنهجية، حيث رأيت أن فرض الثقافة الإسلامية على كل طلاب الجامعة يمثل تعميقا لانتمائهم للإسلام وتحصينا لهم ضد التيارات الوافدة، وفرصة رائعة لتربيتهم على أخلاق الإسلام ومبادئه.
فبدأت وأنا أمتلئ حماسة لعظم المهمة، ورفيع قدرها. وكانت المفاجأة حينما تسلمت المقرر لتدريسه، فإذا هو عبارة عن مجموعة من المقالات للشيح صالح الفوزان جمعها في كتاب سماه "الإرشاد في تصحيح الاعتقاد"، فهالني ما رأيت في الكتاب من تأصيل لتكفير المخالف، وجرأة عجيبة في التفسيق والتبديع، ناهيك عن الاعتداد بالرأي ونفي الرأي المخالف تماما، بل واعتباره والعدم سواء!
فما أيسر أن تجد المعتزلة في هذا المنهج كفارا، والأشاعرة ضُلالا، والماتريدية فُجارا، والصوفية عبدة للأصنام، بل حتى الشافعية والمالكية والحنفية مخالفين للسنة خارجين عن المنهج الإسلامي! أما عن الليبرالية والعلمانية والديمقراطية، فجميعها بلا استثناء حطب جهنم، وسكان سقر، ووقود النار (بحسب الكتاب)!!
وهذا دفعني يومها إلى تسمية الكتاب باسم مناسب لحالته، فسميته "الإرشاد في تكفير العباد"، وأدركت من ساعتها أين يُصنع الإرهاب، وكيف يُغرس التكفير في نفوس الأجيال، فسارعت مع أساتذة فضلاء إلى إدارة الكلية نعرض المشكلة، ونُرشح كتابا آخر يفي بالغرض، ويحمي الطلاب من لفحات التكفير، ومنهجيات التطرف والتفجير.
وكانت المفاجأة أن الجامعة لا تملك مجرد النظر في استبدال الكتاب! وأن تدريس هذا الكتاب على وجه الخصوص بمثابة الأمن القومي الذي لا يجرؤ أحد على المساس به أو المطالبة بتغييره!!
فأدركت أن صناعة التطرف والغلو من أبرز مقاصد النظام، وتربية الأجيال عليه من مهامه السامية، وتصديره إلى العالم من الواجبات الشرعية.
وكان من الطريف أن ندرس للطلاب في المحاضرة أن التصوير حرام قولا واحدا، يعني لا يوجد حتى خلاف على تحريمه!! وظل المنهج على هذه الحالة سنوات، حتى جاء تعميم للكلية بضرورة تصوير مجالس الأقسام، وإرفاق الصور مع محاضر المجالس، حتى يضبطوا الحضور بأدلة دامغة!!!
وفجأة، أجد رئيس القسم هو من يقوم بالتصوير بنفسه، فقلت لهم متعجبا: أليس التصوير حراما قولا واحدا؟! فهل التصوير حرام على الطلاب حلال للجامعة، حرام في قاعة التدريس حلال في مجلس الرئيس؟!
وكانت الإجابة الحاضرة دائما: أين أنت يا دكتور من قول الله تعالى: "وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم".
لذا، لم أجد دولة غيرها في العالم تلتزم مذهبا واحدا تفرضه على الناس في الإفتاء والاعتقاد والتعبد، وليتها تقف عند هذا الحد، بل إنها لا تعتبر بوجود رأي آخر أو مذهب آخر! بل الأسوأ أن تعتبر تلك المذاهب مخالفة للسنة!!!
ولن تعجب إذا رأيت معنا في منى أحد الحجاج يسأل المفتي في أكشاك الفتوى الرسمية المنتشرة هناك، والحصرية على السعوديين فقط، وهو يقول له: يا شيخنا لقد أخذت برأي الشافعي وذبحت هدي التمتع قبل يوم النحر، فما رأي فضيلتكم؟ فتأتيه الإجابة الصادمة: هذا مخالف للسنة.. فقال الرجل هذا رأي الشافعي وأنا شافعي المذهب فما كان من المفتي إلا أن باغته بقوله "اذهب خلي الشافعي ينفعك"!!!!
ولن تعجب كذلك حينما تجد إصرارهم على إلزام حجاج العالم، على اختلاف مذاهبهم، بالفقه السعودي والرأي السعودي والتضييق على خلق الله في أوقات الرمي والمبيت بمنى وغيرها، مما تسبب في الحوادث الجسام وقتل الحجاج في التزاحم، بسبب ضيق الأفق والاعتداد بالرأي وادعاء الحق المطلق!!
ولك أن تسمع معي خطيب الجمعة وهو يتحدث عن التزام هذه الدولة المباركة بالشرع الحنيف، وتمسكها العظيم بتحريم قيادة المرأة للسيارة حفاظا على الدين وصيانة المجتمع من الانحراف، ثم يختم الخطبة بهذا الدعاء العجيب: اللهم من دعا لقيادة المرأة للسيارة فاعمِ بصره وشل أركانه واجعله للناس عبرة وآية!! فما كنت أدري هل أؤمن على الدعاء أم أضحك على البلاهة، أم أبكي لما وصل اليه حال الخطباء!!! وما أدري بماذا يدعو هذا الإمام الآن لولي الأمر الذي تفضل على المرأة بالسماح بالقيادة!!!!
ولا يمكن أن ننسى كيف صدرت الفتاوى الرسمية في البلاد بتحريم التلفزيون أولا، ثم تطورت وحرمت التلفزيون الذي ينقل الصورة بالألوان فقط، ثم كان التحريم القطعي لأطباق الفضائيات، ومداهمة هيئة الأمر بالمعروف للمنازل والمؤسسات التي تضع أطباقا هوائية فوق أسطحها، وتحطيمها ومصادرة الأجهزة ومعاقبة الناس!!!
كل هذا التشدد والتشنج يقابله تطرف في تقديس الحكام وولاة الأمر، حتى وصل بهم الحد الى أن قبضوا على أستاذ جامعي كان معنا في مطار الملك عبد العزيز؛ لأنهم وجدوا في يده شيئا ملفوفا بجريدة الوطن السعودية، وسألوه ماذا في داخل هذه اللفافة، فقال لهم: اشتريت بعض الأنتيكات الصغيرة فلففتها بالجرائد، وجعلتها في يدي حتى لا تتكسر، فكان الاتهام في غرفة الأمن بالمطار: كيف تلف هذه الأشياء في جريدة تحمل صورة الملك؟! أليست هذه إهانة لطويل العمر وعدم تقدير؟! فدافع الرجل عن نفسه، واعتذر بجهالته، وتوسطت لحيته الطويلة وثيابه القصير في العفو عنه، مع التعهد بعدم التكرار!!
هذا ناهيك عن التمسك بفرضية النقاب على أنه الرأي الأوحد، واعتبار المحجبة سافرة عاصية، بل واعتداء موظفي الهيئة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) عليها إذا رأوها في الشوارع أو الأسواق بحجابها، مما نتج عنه أسوأ نموذج لانفصام الشخصية في العالم، حيث تجد بعض البنات والنساء في مطار السعودية منتقبة لا يظهر منها سوى فتحة صغيرة لإحدى عينيها تبصر بها بعض الطريق، فإذا ركبت الطائرة وانطلقت في الأجواء رأيتها تخلع كل شيء؛ لتظهر بأسوء صورة في السفور والإسفاف!!
بل إن هذا التشدد أصاب الناس بمرض نفسي جعل المجتمع السعودي يُعد عالميا من أخطر وأشهر المجتمعات في العالم في الاعتداء الجنسي على الأولاد، بل إن الناس يخافون على أولادهم الذكور أكثر من الخوف على بناتهم ونسائهم!!
ومن هنا، فلا تعجب حينما تبحث عن منظومة التشدد والغلو في العالم وتدرس أبرز أحداثها؛ فتجد أن النظام السعودي كان من أكبر داعميها وأشد مناصيرها، بل ولا تكاد تطلع على حادثة إجرامية باسم الإسلام إلا وتجد ثلة من نتاج هذا النظام قد تورطوا فيها !!!
وقد استغل النظام السعودي محبة الشعب لدينه وتمسكه بمبادئه، والتزامه بأخلاقه، وحرقته عليه وغيرته؛ أسوأ استغلال، فغرس التشدد في النفوس، والتعصب في الأفكار، وأغلق الباب أمام التجديد والتطوير، وخنق الإبداع، وكمم الأفواه، ففتح للتشدد أوسع الأبواب، وعمل على تصديره لكل العالم. ولكن للأسف اقترف كل هذه الجرائم باسم الإسلام، وتحت عباءة بعض الشيوخ، مما كان له أبلغ الأثر في تشويه الدين وتضليل المسلمين!!!
أضف تعليقك