في مقالات سابقة، اتضح لنا أن علماء السياسة تراوحت أمورهم بين الذهول والعجز وانخراطهم في العلوم السيسية التي أبرزت علماء ساروا في موكب الاستبداد، فانتقل بعضهم ليسوّغ ويبرر لدولة الضد حينما تمارس عكس جوهر وظائفها. فقد أشرنا منذ البداية إلى استاذنا الدكتور حامد ربيع حينما أسس مفهوم الوظيفة الكفاحية لعالم السياسة، باعتبار ذلك رسالة يجب أن يحملها سن قلمه الذي يكتب به فيقع هم الأمة و الوطن في وجدانه وعقله، ليعبر عن موقف غائب لعالم السياسة يجب أن لا يتخلف عنه أو يختلف عليه. في هذا المقام نستطيع من خلال كتابات الأستاذ حامد ربيع أن نلتقط من بعض كلماته نقدا لعلماء السياسة الذين عاصروه، رغم أن طبعات الاستبداد كانت أهون من هذه الطبعة التي نراها الآن.
في مقدمة أحد كتبه، يؤكد ربيع على خيانة عالم السياسة لوظيفته وخيانة القائد لوطنه ".. هذا المؤلف.. ليس رفعا لراية التحدي ضد أذناب الاستعمار من نفوس ضعيفة قد عقدتها وضاعة المنبت، فذهبت في قناعة مرضية تسعى لإرضاء القوى الأجنبية معتقدة أنها، وقد حملت رداء القناعة المزيفة، قد استطاعت أن تخدع جماهير أمتها العريضة، كلا!.. فمثل هذه الديدان تعودنا أن نتجاهلها، وإن تعرضنا لها فبكلمة أو إشارة، الديدان تٌسحق ولا يتعامل معها بالنطق والفكر.
ولكننا نرفع راية التحدي ضد الحكام والمسؤولين، لقد تعبنا من الصمت والاعتكاف في صومعة الفكر. علينا أن نخرج إلى دائرة أولئك الذين هم على استعداد لأن يضحوا بحياتهم ودمهم في سبيل قيم أمتهم وتقاليد آبائهم. نحن نستعيد كلمات البابا الكاثوليكي ليو الثالث عشر: لم نعد نقبل أن نرى إخواننا في العقيدة يذبحون وينكل بهم. نحن نعلنها واضحة مدوية: لقد آن الأوان لوضع حد للخيانة. ولا يقلل من المسؤولية القول بأن الحاكم ليس واعيا بتصرفاته. هناك من الإهمال ما يقتل. نحن لن نستطيع وأمامنا مصير أمة كاملة في الميزان أن تأخذها شفقة بدعوى عدم القدرة على فهم مخاطر الرعونة.
إن مصادر التغير والتغيير في قناعتنا لا بد من أن تتعامل وتتفاعل في إطار واحد من التأثير والتأثر والتكتل الإرادي: القيادة، الوعي الجماعي، الطبقة المثقفة.. الطبقة المثقفة هي التي تخلق علاقة الترابط بين الوعي الجماعي والقيادة.. الثقافة هي الحضارة، وكلاهما إنما ينبع من نظام القيم. وهكذا نجد أنفسنا إزاء دوائر ثلاث مترابطة: إرادة الجماعة الإدراكية التي هي صوت الشعب حتى ولو كان خافتا ومتسترا. من يصوغ تلك الإرادة ويملك التعبير عنها، بل وقد يقدم لها قبل أن تتكامل هي الطبقة المثقفة. قلب الإرادة هو القيادة التي تصير بصددها الطبقة المثقفة هي حلقة الوصل، فأين واقعنا من ذلك؟ إرادة الجماعة قد تهلهلت وأضحت تعبيرا عن الاستكانة والترقب إن لم يكن الصمت والسلبية. القيادة عناصر لا تملك الصلاحية، دفعت بها إرادات أجنبية، حيث قامت بعمليات تنظيف منظمة بحيث فرضت تلك القيادات على أمة تاريخية تملك تقاليدها وتملك وظيفتها الحضارية، أنه أحد أدوات التسميم السياسي الذي خضعت له المنطقة العربية منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، قيادات مزيفة راحت تمرح في المنطقة بوقاحة وتحد. فهل تستطيع إرادة الشعب أن تقف في وجهها، وتقيم سلوكها وتحاسبها كما فعلت في تاريخها الطويل وخلال آلاف السنين؟
وهنا تبرز وظيفة الطبقة المثقفة. إن هذه الطبقة التي لم تؤد وظيفتها الحقيقية طيلة أكثر من قرن كامل من الزمان؛ آن لها أن تعرف مسؤولياتها التاريخية. مرحلة دخلت في حكم التاريخ، ولكن علينا أن نعيد فهم حقيقتها وحقيقة متغيراتها لنتعلم درس الماضي والخبرة التي عاشتها هذه الأمة من تعاملاتها مع القوى الأجنبية.. لقد عرفنا الطفيليات التي شوهت تاريخنا القومي وتراثنا الحضاري باسم التجديد، وخدعتنا الأسماء الرنانة التي طبلت لها الدعايات الأجنبية والتي فرضت على المنطقة وبصفة خاصة على مصر.
المنطقة العربية تعيش حالة تغير دفينة. هناك قوى رهيبة تتحرك في جميع أجزاء الجسد. والحاكم الذي يتصور أنه قادر على أن يظل يمارس لعبة الكذب هو ساذج قد دق بيده المسمار في النعش الذي سوف يحمل جثمانه. على حكامنا أن يعلموا أن الكلمة النهائية هي للشعب الذي هو وحده مصدر الحماية والقوة، وعليهم أن يعلموا أيضا أن هذا الشعب، بحسه التاريخي ووعيه اللاشعوري وتقاليده الثابتة ومنطقة اللاواعي، قادر على أن يقيم ويحكم.. لقد تعلمت الأمة وتراكمت خبراتها واكتسبت الحصانة ضد التسميم الفكري، وأضحت بقدرتها على التقييم قادرة على أن تعرف ولو من منطلق الإيحاء، أن تميز العدو من الصديق.
إن أكثر ما يجب أن يتذكره حاكم اليوم هو: أن تلك الأمة قد استعادت ثقتها في نفسها... إن الهزائم المتتالية التي عانتها شعوبنا العريضة هي أيضا منطق للخبرة وأساس لبناء القدرة الذاتية. الآلام التي عاشتها تلك الأمة ومرارة الهزائم المتتالية فرضت عليها أن تواجه مشاكلها بجدية معينة. وإذا كانت الأمة العربية تبحث عبثا عن قياداتها، فلا تجد سوى أذناب ترقص وتغني على وقع الإرادات الأجنبية، فإن هذا لا يمنع من أن ضمير هذه الأمة قد تعود أن يحتفظ في وعائه اللاشعوري بقيمه، وأن يدفن في ضميره الخفي تقييمه لحكامه وقياداته، منتظرا اللحظة المناسبة. على الحاكم أن يتذكر أن عدم الرفض الصريح لا يعني التأييد، وأن الصمت والترقب لا يعني المشايعة.
فلتكن هذه الكلمات صرخة تحذير. لا يزال الباب مفتوحا ليعود كل ابن عاق إلى منزله آبائه، يعلن التوبة ويطلب الهداية. ولن يكون خونة اليوم أول صفحة في تاريخ الخيانة في أمتنا. إن هذه الأمة التي هي قصة الإنسانية تعرف أن الضعف هو أيضا إحدى صفات الطبيعة الإنسانية، ولكنها تعرف كذلك أن التوبة هي الشرط الأساسي لإمكانية بدء الحوار.
وحدث كل ما توقعناه، وأعلنت تل أبيب عن نياتها الحقيقية. لقد أبرز الذئب أنيابه التي عمل.. جاهدا على أن يخفيها ولم يجد أمامه سوى فئران مذعورة وجاءت الرغبة في الابتلاع. وأثبت المثل الفرنسي المشهور صحته: الشهية تأتي من خلال تناول الطعام. الضعف يغري، والجيش القوي ليست وظيفته فقط أن يقاتل، بل وأن يمنع القتال. إن كل من قرأ التاريخ الحقيقي للصهيونية كان يجب أن يتوقع، ولكن لقد تعوّد أيضا علماؤنا الجهالة. إنهم لم يبرعوا فقط في فن التصفيق والتسلق نحو المناصب، وكيف تستطيع الديدان أن تعيش إلا في القذارة؟ بيروت تُدمر، أهلها يُستأصلون، والعالم بأجمعه يضج، ومع ذلك لا نزال نجد من يتحدث عن التطبيع".
يتحدث ربيع عن بيروت. ضع بدلا منها مدنا عربية وحواضر، ستجد ذات الأمر منطبقا. "علماء السياسة السيسيون" بين أمور ثلاثة: عالم ذنب لقوى المستعمر، أو أداة لسوق التطبيع، أو مداس في قدم المستبد إلا من رحم ربك. إنها أنواع من الخيانة: إما خيانة لمصلحة المستبد، أو خيانة لمصلحة المستعمر الخارجي في تبعية مقيتة، أو الخيانة لمصلحة الكيان الصهيوني في الانخراط في عمليات تسويغ لسياسات التطبيع. وكما أكدنا، هو بين كونه أداة في الترويع والتفزيع لمصلحة المستبد لصناعة عقلية القطيع، تارة بالتغيير وتارة بالسكوت والتمرير. إنه يسهم في عمليات تزوير للحقيقة وصناعة الزيف، وكل أمور تتعلق بإسهام يخون فيه الشعب ويزور عليه، أو هو أداة في يد المستعمر يكون سلعة في أسواق البيع والمبيع، بين بيع الضمائر وبيع المصائر، لا يملك من إرادة، ويسوغ الذيلية والتبعية، ويُسهم في افتراس الناس من خلال صناعة الإحباط وفن الممكن، وأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان.. تصدير الإحباط وصناعة اليأس.
هو أداة لمصلحة الكيان الصهيوني، يهجم على المقاومة ويشوه عملها، يسوّغ الانبطاح، ويتغاضى عن كل خيانة للوطن ولأرضه وعرضه وأمنه القومي، ويعمل كمنادٍ في أسواق التطبيع. تتعدد أنواع الخيانات، فعالم السياسة يلوذ بإحداها أو يتعامل معها جميعا، أو هو من الصامتين. قلة نادرة يمكن أن تشكل خروجا على النص، وتمارس حقيقة وظيفتها، فتظل تدافع عن قيم أمة وحقوق شعب ومصير وطن؛ يحدد عدوه ويستهدفه بالمواجهة والمقاومة. لا زالت كلمات حامد ربيع، وهو يصدع بكفاحية عالم السياسة ترن في الأذان وتصفع خيانة بعض من علماء السياسة الذين لم يحسنوا يوما إلا مواقف وأفعال الخيانة، الخيانة لوظيفتهم وأدوارهم ورسالتهم.
أضف تعليقك