مصطلح الطاغية يَحْمل معاني متعدِّدة -حسب سياقات تاريخيَّة معينة، وبيئة معينة- من قَبِيل الاستبداد، والدكتاتورية، والتوليتارية، والفاشية، والنازية، والارستقراطيَّة، والظُّلم.
لكن الطغيان عمومًا هو وضع الشَّيء في غير مَحلِّه، باتِّفاق أئمة اللغة، وهو أيضًا: عبارة عن التعدِّي عن الحق إلى الباطل، وفيه نوعٌ من الْجَور؛ إذْ هو انحرافٌ عن العدل، كما عرَّف الرَّاغبُ الأصفهاني في كتابه (الْمُفردات في غريب القرآن) الطُّغيانَ بأنَّه: "تَجاوزُ الْحدِّ في العصيان، ويقال: "طَغى الماء" إذا جاوز الحدَّ المعقول المعروف، وقوله تعالى: {فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} [الحاقة: 5].
ويذهب الأستاذ "بدر خضر" في كتابه "القهر الإنساني في هندسة الطَّاغية" إلى أنَّ الطاغية مَن أسرف في المعاصي والقهر، وقد يَتَّخِذ من القوانين -خاصَّةً الوضعية- ما يُتِيح له ارتكابَ الفظائع.
كما أنَّ عبارة الطاغوت تَميَّزَت بكونها مفردًا وجمعًا في نفس الوقت، وأنَّها تستعمل لوصف طاغية أو لوصف طُغاة عديدين، وكذلك لِنَعت الصِّفة (الطُّغيان)، ونعت الفعل (طغَى يَطْغى)، إلى جانب تَحْميل المولى -عزَّ وعلا- لِهَذه العبارة معانِيَ الاستبداد المؤدِّي حتْمًا إلى الضَّلال ثُمَّ الكفر، واتِّخاذها أيضًا رمزًا مُضادًّا للإيمان، مُناقِضًا للإسلام.
خدام الطغاة
في العصر الحالي ابتلي العالم الإسلامي بخدام العلمانية الغربية المتوحشة من أمثال الطاغية "عبدالفتاح السيسى"، الذي قضى على كل ما يمت للإسلام بِصلة؛ بدعوى محاربة الإرهاب؛ خدمةً للكيان الصِّهيو- أمريكي، وللأجندة الغربية، وذج بعشرات الآلاف من الأبرياء بالسجون بدون وجه حق، وشرح نظامه قوانين خاصة تبيح قتل المواطنين واستهدافهم في منازلهم دون أن يعترضهم أحد.
وما زال الطُّغاة يَطْفون على سطح العالَم الْمُعاصر، ليخلدوا أسمائهم عبر التاريخ بعد الانتهاكات المهينة التى يمارسونها ضد شعوبهم.
سجَّل التاريخُ نَماذج من الطُّغاة سعَتْ إلى فرْض هيمنتها وجبَروتِها على رعيَّتِها بشتَّى أنواع التنكيل والتقتيل والتجويع، فكان عاقبتها الخُسران المُبين، وخير ما نبدأ به هو النَّمُوذج الوارد في كتاب الله باعتباره المصدرَ الأوَّل في التشريع الإسلامي، يقول تعالى: {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ} [العنكبوت: 39].
ثُمَّ لا يمر عصرٌ من العصور الْمُوالية إلاَّ ويطبع التاريخ بخراب الطغاة وظلمهم، ولكن تكون نِهايتهم مُخْزية ومهينة للعبرة والعظة، هيهاتَ هَيهات! أين الْمُتَّعِظون من طُغاة هذا العصر؟!
في عهد الإغريق كان الطُّغيان -حسب تعريف أرسطو قديمًا- هو صورةٌ للحُكم الفرديِّ في مُمارسة السُّلطة دون رقيبٍ ولا حسيب، حتَّى في أثينا التي قالوا عنها: إنَّها اتَّبعتْ نظامًا ديمقراطيًّا، أما أفلاطون فيُشبِّه الطاغية بالذِّئب؛ "لأنَّه يذوق بلسانه دمَ أهله بقتلهم وتشريدهم"، بينما شبَّه القديس "أوغسطين" التاريخَ الرُّومانِيَّ بتاريخ عصابة اللصوص والطُّغاة المتجبِّرين.
لكن الطُّغيان الأكثر فتْكًا بالعالَمِ الغربِيِّ ما مارسَتْه الكنيسةُ الكاثوليكيَّة في شخص الأكليروس (رجال الدِّين النَّصارى) من استعبادٍ واستغلال بأفرادها؛ من خلال ترويجٍ لِخُزعبلات، مستغلِّين سذاجةَ وجهل أهلها التامَّيْن بأمور دينهم؛ من خلال احتكار الكَنِيسة للكتب الدِّينية المُحَرَّفة، ومن أبرز تَجلِّيات ذلك ما يسمى بـ"صُكوك الغفران"، كما أوجب القديس "جريجوري" طاعةَ الْحكم المدَنِيِّ ولو كان طاغيةً؛ لأنَّ كل حكم له علاقة بالله[1].
لكن في المقابل، بإطلالة سريعةٍ على التَّاريخ الإسلاميِّ في أزهي مراحله -وهي الْمَرحلة التي بدأتْ فيها أوربا تغرق في ظلام حالكٍ على المستوى الدِّيني والمعرفي- يعطينا مثلاً أبو بكر الصديق أروعَ النَّماذج في العدل، ونفْي صِفَة القداسة عن نفسه، بل يَعْتبر نفسه بشَرًا عُرْضة للخطأ، فلم يُنَصِّب نفسه ملَكًا ولا نبيًّا مرسلاً، ولَم يُلْصِق بنفسه صفة العِصْمة؛ إذْ يقول: "لقد وُلِّيتُ عليكم، ولَسْت بِخَيركم، فإنْ أحسَنْتُ فأعينوني، وإن أسَأْت فقَوِّموني، أطيعوني ما أطعْتُ الله فيكم ورسولَه، فإنْ عصيتُ الله ورسوله، فلا طاعة لي عليكم".
والباحث والمدقِّق في تاريخ الصِّدِّيق يرى أن تصرُّفه كان غايةً في الحرص على الالتزام بكتاب الله والتأسِّي برسول الله في الرَّعية، والتنَزُّه عن كل مطامع الدنيا وزينتها؛ ثِقَةً منه بأنَّ مَن ساس أمور الناس، فأفاد لِنَفسه منها، كان ظالِمًا لنفسه، وللناس جميعًا، ونفس الشيء ينطبق على باقي الخلفاء الرَّاشدين -رضوان الله عليهم- ومن سار على درْبِهم من السلف الصالح.
لكنْ مع انتشار العقائد الباطنية الفاسدة التي تَمَّ جلْبُها من التيَّارات الفلسفية القديمة، ظهر طُغاةٌ من أمثال المُعزِّ لدين الله الفاطميِّ، الذي اختزل مفهوم الحكم بصراحةٍ غيْر معهودة لَمَّا قال: "هذا حسَبِي" -مشيرًا إلى المال- "وهذا نسَبِي" مشيرًا إلى سيفه.
أبرز الطغاه فى التاريخ الحديث
عودًا إلى التاريخ الحديث، وبِتَصفُّحِنا للكتابات التاريخية الغربية، نجده مرسومًا بِثُلَّة من القادة الطُّغاة، الذين أبادوا ودمَّروا، وعاثوا في الأرض فسادًا، ولعلَّ من أبرزهم:
- أدولف هتلر (1889 – 1945م): وُلِد في النِّمسا، قاد شعبه الألماني إلى الهَاوية في الحرب العالمية الثانية، عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى انضمَّ هتلر إلى الجيش الألمانِيِّ كعريف في الخنادق، وقد هزَّه استسلامُ ألمانيا في عام 1918م، إلى الانخراط في العمل السياسيِّ، وتزعَّم حِزبًا متطرِّفًا "حزب العُمَّال الألماني الاشتراكي القومي"، ويسمَّى اختصارًا (الحزب النازي)، قاد مُحاولتَه الأولى للاستيلاء على السُّلطة فسُجِن، لكن ذلك كان فرصةً لتأليف كتابِه الْمُعنون بـ"كفاحي"، الذي تضمَّن فلسفتَه السياسية؛ إذْ كان يؤمن بِتَفوُّق العنصر الآريِّ الألماني على باقي الأجناس البشريَّة.
وبعد تَهاوي الاقتصاد الألمانِيِّ في عام 1929م -إبَّان الأزمة الاقتصادية العالمية، التي انطلقت من انهيار أسهم بورصة "وول ستريت"- صوَّت أغلبيةُ الشَّعب الألماني لِصَالح "هتلر"، وفي سنة 1932م أصبح الحزب النازيُّ الأكثر تمثيلاً في (البرلمان)، ثم انْتُخِب مستشارًا؛ إذْ عمل على سحق مُعارضيه لِيُعيِّن بعد ذلك نفْسَه قائدًا (الفوهرر) على ألمانيا.
وفي عام 1939م، أطلق الشرارة للحرب العالمية الثانيَّة بِضَمِّه النمسا والسويد وبولندا التي كانت السَّببَ الْمُباشر في اندلاع الْحَرب، لكنَّ انتصاره كان قصيرَ العمر؛ ففي 1945م انتحر "هتلر" بعد انهزامه أمام الرُّوس في معركة "ستالينجراد".
- جوزيف ستالين.. الطاغية الفولاذي: اسمه الكامل "جوزيف فيساريونوفيتش ستالين" (1953- 1879م)، بوصول ستالين للسُّلطة المُطلقة في 1930م، عمل على إبادة أعضاء اللجنة المركزية البلشفيَّة، وأعقبها بإبادة كلِّ مَن يعتنق فِكْرًا مُغايِرًا لفكر "ستالين"، أو مَن يَشُكُّ "ستالين" في مُعارضته!
تفاوتَت الأحكام الصَّادرة لِمُعارضي فكر "ستالين"؛ فتارةً يَنْفي مُعارضيه إلى معسكرات الأعمال الشَّاقة، وتارة يزجُّ بِمُعارضيه في السُّجون، وآخرون يتمُّ إعدامهم، بعد إجراء مُحاكمات هزليَّة، بل ومن أهمِّ استراتيجيَّاته "الطُّغيانية" تطبيقُ ما يُسَمَّى بالاغتيالات السِّياسية، ومِن ثَمَّ قَتلَ الآلاف من المواطنين السُّوفييت، وزَجَّ آلافًا آخرين في السُّجون لِمُجرَّد الشكِّ في معارضتهم لمبادئه الأيديولوجيَّة!
في الأول من مارس 1953، وخلال مأدبة عشاء بحضور وزير الداخلية السوفييتي "بيريا" و"خوروشوف" وآخرين، تدهورَتْ حالة "ستالين" الصحِّيَّة، ومات بعدها بأربعة أيام. وتَجْدر الإشارة إلى أنَّ المُذكِّرات السياسية لـ"مولوتوف"، والتي نُشرت في عام 1993م تقول: إن الوزير "بيريا" تفاخر لـ"مولوتوف" بأنَّه عمد إلى دسِّ السُّم لـ"ستالين" بِهَدف قتله.
- بنيتو موسوليني.. رمز الفاشية: ويُسمَّى أيضًا بالدوتشي، حكَم إيطاليا من 1922م إلى 1943م، وفرَّ إلى سويسرا بعد الهزيمة الألمانية، وتعرَّض له أنصاره، وقتَلوه رمْيًا بالرَّصاص في 28 نيسان/ إبريل 1945م.
يقول عنه المؤرخ "فيشر" في كتابه "تاريخ أوربا الحديث": "استقبَلَت دولُ أوربا الغربيَّةُ نَزعاتِ طُغيانِ الديكتاتور الإيطالِيِّ، وأساليبَ قمْعِه واضطهاده، بأحاسيس العداء والارتياع؛ فقد أنجبَتْ إيطاليا رجلاً مستبِدًّا من طراز قيصر، تُحِيطه هالةُ الخطيب الذَّرِب، وتُحَلِّيه مَكارِمُ رجلٍ من رجال الشعب، ولكنه حاكِمٌ مُستبد، يكدح ويجدُّ لكي يَجْعل أمته قوية متَّحِدة، فكان الثَّمَن الذي دفعه الإيطاليُّون للخيرات والمنافع التي جاءَتْهم على أيدي الدوتشي هو فقدانهم الحرية".
- فرانسيسكو فرانكو (1892- 1975م): رئيس الدولة الإسبانيَّة، وقد قلد "فرانكو هتلر" و"موسوليني" في أنه جعل نفْسَه زعيمًا وأبًا لإسبانيا، وسَمَّى نفسه "الكوديللو"؛ أيْ: زعيم الأُمَّة، كما سَمى "هتلر" نفسه "الفوهرر"، و"موسوليني" نفْسَه باسم "الدوتشي"، وهي كلمة إيطالية لا تختلف في معناها عن كلمة "الفوهرر" أو "الكوديللو" الإسبانية، كان من المفترض أنْ يَنهار نظامُ "فرانكو" مع انْهِيار "هتلر" و"موسوليني" بعد الْحَرب العالمية الثَّانية، ولكن "فرانكو" كان شديد الْحَذر، فأعلن حِيادَ إسبانيا أثناء الحرب، ومِمَّا سجَّله التاريخ ما ارتكبه في حقِّ أهل الريف المَغاربة من استعمال الغازات المَحْظورة دوليًّا.
وفي 20 تشرين الثاني/ نوفمبر 1975م توُفِّي فرانكو عن 83 عامًا من العمر، بعد نزاعٍ دام 35 يومًا إثر مشكلات في القلب.
عاقبة الطغاة الظلمة المتجبرين في الأرض:
ولنا في كتاب الله العِبْرة والعِظَة؛ فهو الْمُوجِّه والْمُخبِر عن مآل الظَّالِم والطَّاغي في الأرض، قال تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف: 59]. وقال الله U: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إبراهيم: 42، 43]. وقال سبحانه: {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36]. وقال تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم: 44، 45]. وقال: {أَلاَ إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ} [الشورى: 45].
والظُّلم من الْمَعاصي التي تُعَجَّل عقوبَتُها في الدُّنيا، فهو مُتعدٍّ للغير، وكيف تقوم للظَّالِم قائمةٌ إذا ارتفعَت أَكُفُّ الضَّراعة من الْمَظلوم فقال الله U: "وعزَّتي وجلالي لأنصُرنَّكِ ولو بعد حين"؟!
قال أبو العتاهية:
أَمَا وَاللَّـهِ إِنَّ الظُّلْمَ لُـؤْمٌ *** وَمَا زَالَ الْمُسِيءُ هُوَ الظَّلُومُ
إلى دَيَّانِ يَوْمِ الدِّينِ نَمْضِي *** وَعِنْـدَ اللَّهِ تَجْتَمِعُ الْخُصُومُ
سَتَعْلَمُ فِي الْحِسَابِ إِذَا الْتَقَيْنَا *** غَـدًا عِنْدَ الإِلَهِ مَنِ الْمَلُومُ
وأكثر من هذا حذَّر الله -سبحانه- أشدَّ التحذير من الظُّلم؛ لِخُطورته الشديدة، يقول عزَّ مِن قائلٍ: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227]؛ إذْ إنَّ ندم الظَّالِمِ وتَحسُّرَه بعد فوات الأوان لا ينفع؛ قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} [الفرقان: 27].
واللهَ نسأل أنْ يَحْفظنا من الظُّلم والظَّالِمين، ويَحْشرنا مع حبيبنا سيِّد المُرسلين محمَّدٍ -عليه أفضل الصَّلاة والسلام- والحمدُ لله ربِّ العالَمين
أضف تعليقك