• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانيتين

بقلم: أحمد مولانا

تستخدم النظم الاستبدادية فزاعة غياب الأمن لتخويف المواطنين من المطالبة بحقوقهم، إذ تضعهم أمام معادلة جائرة تجعل الفوضى في كفة والاستبداد في الكفة الأخرى. وقد عاشت العديد من المناطق المصرية خلال ثورة يناير وما تلاها حالة من الفراغ الأمني، مما طرح تحديا تمثل في كيفية إدارة هذا الفراغ. وتسعى هذه التدوينة لاستعراض تجربة اللجان الشعبية التي أدارت مدينة كرداسة فيما يشبه الحكم الذاتي خلال الفترة الممتدة من يناير 2011 إلى الانقلاب العسكري مطلع يونيو 2013.

كرداسة ومحيطها

 

مدينة كرداسة يبلغ عدد سكانها 70 ألف نسمة وفقا لتعداد عام 2006، وهى عاصمة مركز كرداسة الذي يضم العديد من القرى، ويوجد بها قسم للشرطة يشرف على المركز بأكمله، وهى أقرب ما تكون إلى قرية كبيرة(1). وتتميز بتكوينها الاجتماعي المتماسك والقائم على وجود عائلات كبيرة تسكن بها منذ أزمان بعيدة، وتشتهر المدينة بصناعة العباءات النسائية وبالزراعة.

وغير بعيد من كرداسة توجد المنطقة الواقعة على طريق (مصر-الإسكندرية) الصحراوي، والتي يسودها قانون عرفي يسمي بقانون "الغفرة" والذي يعني أن الأعراب يتقاسمون غفارة وحماية تلك المنطقة، فلكل زعيم منهم مساحة محددة يشرف على تأمينها برجاله مقابل إتاوة دورية تُدفع له، وكل مجموعة عربان تعمل بالتنسيق مع شخصيات نافذة في المؤسسة العسكرية، ويُعد عطية عبد الجواد الشهير بعطية العريبي أحد أبرز شيوخ العرب بتلك المنطقة، فهو الذي يشرف برجاله على حراسة مواقع البترول والمصانع الكبرى وقصور كبار رجال الأعمال والفنانين بمدينة 6أكتوبر(2). كما توجد أيضا بالقرب من كرداسة بؤر الجريمة والبلطجة بحي الهرم، إذ يفرض كبار البلطجية الإتاوات على النوادي الليلية والكازينوهات مقابل حمايتها(3).

 

بدء تشكل اللجان الشعبية(4)

مع اندلاع ثورة يناير، ونزول الشباب الراغب في الحرية للشوارع، شهدت مدينة كرداسة مظاهرات ثورية، وكعادة الشرطة المصرية تصدت للمظاهرات بالقمع فقتلت اثنين من الشباب- حسام الجندي ويوسف المكاوي- بالقرب من مبنى مركز الشرطة، فأجبر الأهالي عناصر الأمن على مغادرة المركز لتواجه المدينة فراغا أمنيا خطيرا، وعندئذ بادرت عائلات المدينة لتشكيل لجان شعبية للحفاظ على الأمن وتسيير الأمور، وترأس هذه اللجان مهدي الغزلاني أحد الشخصيات القوية صاحبة النفوذ. ومن ثم تسلمت اللجان الشعبية- عقب عزل مبارك- مفاتيح مجلس المدينة وقسم الشرطة من المحافظة ومديرية أمن الجيزة.

تميزت كرداسة بوجود قوي للإسلاميين بشتى تياراتهم، وأدت العلاقات العائلية القوية بين أهل المدينة إلى إذابة الحواجز الفكرية والتنظيمية بين أبنائها، فعمل الجميع تحت مظلة اللجان الشعبية التي اتسعت لتشمل المواطنين النصارى، ومن أبرزهم رؤوف منير المستشار بمحكمة جنايات الإسكندرية.

 

بنية اللجان الشعبية:

 

تشكلت من ثلاث لجان رئيسية هي:

 

1-اللجنة الأمنية: تشكلت اللجنة من بعض شباب المدينة من أصحاب البنية الجسدية القوية، ومن بعض المعتقلين الجهاديين السابقين، واختصت بإقامة الحواجز لتفتيش السيارات القادمة للمدينة، والقبض على اللصوص، وحجزهم بمبنى مركز الشرطة لحين تسليمهم لأقرب قسم شرطة قرب المدينة. وخصصت اللجنة أرقاما هاتفية لتلقي بلاغات المواطنين. وتمكنت من ضبط قضايا متنوعة شملت الاتجار بالمخدرات وسرقة السيارات والخطف. وفي أكتوبر 2011 عادت الشرطة إلى كرداسة في حماية اللجنة الأمنية عقب اجتماع عُقد بمقر محافظة الجيزة اتفق خلاله بين المحافظ ومدير الأمن ومسؤولي اللجان الشعبية على التنسيق المشترك لحفظ الأمن بالمدينة(5).

 

2- لجنة فض المنازعات: أشرف على إدارة اللجنة ثلاثة من الحاصلين على شهادات الدكتوراه في الشريعة والقانون. واختصت بالحكم بين المتخاصمين وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية، فكانت اللجنة أشبه ما يكون بالمحكمة الشرعية التي تمتلك كافة الصلاحيات بما فيها قوة الإلزام والجبر في تنفيذ الأحكام اعتمادا على ذراعها التنفيذي المتمثل في اللجنة الأمنية، وقد اكتسبت اللجنة صيتا واسعا جعل العربان المحيطين بكرداسة يلجئون إليها للتدخل في حل الخصومات بينهم بدلا من اتباعهم للتحكيم العرفي.

 

3- لجنة التموين: اختصت بحل المشاكل التموينية للمواطنين، فأشرفت على إدارة مستودعات أنابيب البوتاجاز، ووفرت الأنبوبة الواحدة بسعر زهيد بلغ 5 جنيهات، كما تولت الإشراف على أفران الخبز ومخازن الدقيق، وامتد نشاطها ليشمل تأسيس مشروع للنظافة يحل مشكلة القمامة المتكدسة بالمدينة، عبر جمع القمامة من أمام المنازل بواسطة تروسيكلات مقابل اشتراك شهري مقداره 5 جنيه للمنزل الواحد، وتمكنت اللجنة بذلك من تشغيل عشرات الشباب في المشروع، ليتحول إلى مشروع ربحي يدر أموالا، وليساهم في علاج مشكلة البطالة.

 

 

النجاحات المجتمعية:

 

نجحت اللجان الشعبية في مد نفوذها إلى شريحة سائقي سيارات الأجرة، فنظمت لهم انتخابات أسفرت عن اختيار شيخ للسائقين، وبذلك تم احتواء شريحة عُرف عنها الشغب وكثرة المشاكل. وفي المحصلة نجحت تجربة اللجان الشعبية في التغلغل بعصب المجتمع، وحازت احتراما كبيرا بين الأهالي، حتى كان يكفي لتوقيف أي بلطجي، أن يتوجه إلى منزله عناصر اللجنة الأمنية صحبة أحد كبار عائلة البلطجي، فيسارع بتسليم نفسه طواعية. كما نجحت اللجان في تحييد العربان الذي حرصوا على كسب ودها وتجنب الاصطدام بها.

 

الانقلاب العسكري وتداعياته:

 

نظرا لرسوخ جذور التيار الإسلامي بمدينة كرداسة، فقد رفض معظم سكانها الانقلاب العسكري، وتواجد العديد من شبابها في اعتصام النهضة بمحافظة الجيزة لقربه الجغرافي من مدينتهم، ومن ثم عندما وقعت مجازر فض اعتصامي رابعة والنهضة صبيحة يوم 14 أغسطس 2013، وسقط خلال ذلك عدد من شباب المدينة المعتصمين على يد قوات الأمن، سارع الأهالي للتجمهر أمام مركز الشرطة الذي حاوطته المصفحات، وحدثت مناوشات، فاستنجدت الشرطة بشيوخ العربان وكبار البلطجية، ولكنهم رفضوا التدخل نظرا للعلاقة التي ربطتهم باللجان الشعبية  فضلا عن تلقيهم رسالة تحذيرية واضحة من مسئولي اللجان الشعبية بعدم مشاركة قوات الشرطة في أي اعتداء على الأهالي وإلا سيواجهون عواقب وخيمة.

وتصاعدت الأحداث أمام مركز الشرطة، فأطلق عناصر الأمن الرصاص في الهواء لتفريق المتجمهرين، ثم حدث تطور دراماتيكي في وقت الظهيرة، إذ ظهر مسلحون ملثمون هاجموا مبنى مركز الشرطة(6)، لتسفر الأحداث عن مقتل 13 شرطيا منهم مأمور المركز ونائبه. وظلت المدينة خاوية من عناصر الشرطة، إلى أن اقتحمت حملة أمنية ضخمة المدينة يوم 19سبتمبر 2013 في حماية مروحيات الجيش، وقبضت على المئات من الأهالي، وأحرقت منازل من لم تعثر عليهم من قادة اللجان الشعبية ومن المطلوبين(7).

واعتقلت الشرطة لاحقا زعيم العربان عطية العريبي، ثم صدر بحقه هو وشيخ عرب آخر فقط حكم بالبراءة من بين مئات المتهمين في قضية اقتحام مركز الشرطة. ثم تعرض العريبي لاحقا لإطلاق نار من قبل مجهولين أودى بحياته أثناء ذهابه لصلاة الفجر يوم 28 نوفمبر 2015، واتهمت سلطات النيابة بعض أقاربه بالضلوع في قتله على خلفية مشاكل مالية(8). كما لم تنس أجهزة الأمن خذلان زعيم البلطجية عماد الصعيدي لها أثناء أحداث مركز الشرطة، فقتلته بمنطقة حدائق الأهرام في (9 مارس 2016).  ثم صدرت أحكام إعدام بالجملة على أهالي كرداسة طالت 150 شخصا في قضية اقتحام مركز الشرطة وحدها، قبل أن يُقبل النقض في القضية لتعاد إجراءات المحاكمة من جديد، وينخفض عدد المحكوم عليهم بالإعدام إلى عشرين شخصا.

وبذلك يسدل الستار على هذه التجربة الفريدة التي شهدتها مدينة كرداسة، والتي نجحت استنادا إلى البنية العائلية المتماسكة لأهل المدينة في إيجاد مساحات مشتركة بين المواطنين بمختلف انتماءاتهم الفكرية والدينية من أجل العمل للصالح العام بعيدا عن تغول مؤسسات الدولة السيادية وفسادها واستبدادها.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

المصادر:

 

1-وفقا للموقع الإلكتروني لمحافظة الجيزة: كانت كرداسة قرية تابعة لمركز أوسيم ثم صدر لها سنة 2005 قرار من رئيس مجلس الوزراء بتحويلها إلى مركز مستقل.

 

2-اغتيال المتهم الثاني بمذبحة كرداسة في عز الفجر - مجلة روز اليوسف - 5/12/2015.

 

3- لمزيد من التفاصيل انظر: سقوط أخطبوط كرداسة "الصعيدى" داخل فيلته بحدائق الهرم- اليوم السابع - 9/3/2016.

 

4- التفاصيل الخاصة بتأسيس اللجان الشعبية وأنشطتها استقيتها من عدة زيارات للمدينة بعد الثورة، واللقاء بأبرز مسؤولي اللجان الشعبية كالشيخ مهدي الغزلاني رحمه الله، والدكتور محمد الغزلاني.

 

5- فيديو للاجتماع الذي حدث به الاتفاق على عودة الشرطة للمركز: https://youtu.be/LAl-hU0bS5k، وفيديو لحفل افتتاح مركز الشرطة: https://youtu.be/HhRy_qxiIbs

 

6- وفقا لروايات شهود العيان لوكالة الأناضول- انظر: الأمن يسيطر على قسم كرداسة- مصرس - 19/9/2013.

 

7- انظر مشاهد إحراق الشرطة لمنازل المطلوبين على الرابط: https://youtu.be/RWh8o10j50s

 

8-الأهرام 2/12/2015.

 

أضف تعليقك