بينما الوزير في مجلسه إذ دخل عليه أحد صعاليك التتار بفرسه، وَبَالَ على بساطه بكل ثقة !!
لم يكن التتري مجنونا، بل كان الوزير مُهانا ذليلا، يتقلّد منصب الوزارة لدى التتار فقط بالاسم، وأما الواقع فيُنبئ أنهم أذلّوا ناصيته، وجعلوه عبدا لهم، لا قرار له ولا رأي.
مرّت به عجوز وهو في آخر أيامه مطأطئ الرأس عليه أمارات الذّل، فقالت: أهكذا كان يعاملك بنو العباس؟!
فمات كَمَدًا وحسرة على مجد ضيَّعه، وسُلطة بدّدها، بعدما ارتمى تحت أقدام العدوّ، وباع دينه وأُمّته..
عن الوزير الشيعي في الخلافة العباسية محمد بن العلقمي، نتحدّث ..
لم يكن ذلك سوى الفصل الأخير في القصة، وأما البداية فكان فيها الوزير مُهابًا مطاعًا، إلا أن طائفيته قد استبدّت به، فتآمر مع التتار لدخول بغداد والقضاء على الخلافة، طمعا في إقامة دولة شيعية على أشلاء أهل السنة.
رسم ابن العلقمي خُطته التي تمهد للاجتياح التتري، وبدأ في إضعاف الاقتصاد، فكان ينهل من خزائن الدولة ولا يتوقّف عن تبديدها في الولائم والتفاهات التي كانت تروق للخليفة المُغيّب، ثم شرع في إضعاف الجيش حتى تبقى حاضرة الخلافة بلا قوة تحميها، فحارب الجند في أرزاقهم وأسقط أسماءهم من الديوان وصادر ممتلكاتهم، وبلغ الفقر منهم مبلغا عظيما، حتى أنهم كانوا يتسوّلون في شوارع بغداد، وأصبح الشعراء يرثونهم في أشعارهم، كما قام الوزير بتسريح كثير من الجنود، فانخفض عدد الجيش من مائة ألف إلى عشرة آلاف.
بعد أن اطمأن ابن العلقمي إلى القضاء على القوة الضاربة في الجيش الإسلامي، انتقل إلى الخطوة التي تليها وهي مراسلة التتار وإغراء زعيمهم هولاكو في احتلال بغداد، فأظهر له ضعف الجيش عن حماية الدولة، وأنّ عليه أن يجتاح بغداد، وتنصيبه ملكا عليها يحكمها في ظل التتار.
وبلغ من خبثه أنه كان إذا أراد مراسلتهم، أخذ أحد رجاله وحلق رأسه وكتب عليه بوخز الإبر، ثم غطي رأسه بالكحل وحبسه لديه حتى ينمو شعره، ثم يرسله إليهم، فيطلب منهم الرجل أن يحلقوا شعره لقراءة الرسالة التي لا يدري عنها شيئا، فيجدوا في آخر الرسالة (قطعوا الورقة)، فيفهم التتار المقصود فيقتلوا الرسول.
وخرج ابن العلقمي للاجتماع بهولاكو بعد أن نهى عامة الناس عن قتاله، ثم عاد إلى الخليفة وأوهمه أن ملك التتار يريد مصالحته على أن يكون له نصف خراج العراق، والنصف الآخر للخليفة، ومن ناحية أخرى أقنع هولاكو ألا يقبل من الخليفة صُلحا.
وخرج الخليفة صحبة سبعمائة من العلماء والأمراء والقضاة والأعيان، فقتلهم التتار جميعا حتى الخليفة، ثم دخلوا بغداد وقتلوا أهلها واستحلوا الأموال والأعراض، فقتلوا كل من رأوه حتى الأطفال والنساء، واغتصبوا الحرائر على أعين الناس، واقتادوا الأعيان والأمراء والعلماء إلى مقبرة الغلال يذبحون واحدا تلو الآخر، بعد أن أخذوا نساءهم، وقُتل الخطباء وحفظة القرآن، وتعطلت الصلوات والجُمعات أشهرا، وخربوا مكتبات بغداد، وألقوا المخطوطات في النهر حتى تغير لون الماء.
فما الذي حصده الوزير الخائن سوى الذل والهوان والضياع بعد أن مكّن الأعداء من رقاب المسلمين؟!
وما الذي حصده الخونة والعملاء الذين تآمروا في كل عصر على الأمة مع أعدائها؟
هؤلاء هم من فتح الأبواب للغُزاة والمحتلين، فما كان لجيوش العالم أن تتسلط على رقاب المسلمين إلا من خلال الخيانة والغدر من الداخل.
لو كان هؤلاء العملاء الخونة يلتمسون مجدا دنيويا زائلا، فلِمَ لا يطلبونه في الشرف والأمانة؟
ولِمَ لا ينشدونه في الانصهار مع الشعوب بدلا من الارتماء في أحضان الأعداء؟
هؤلاء ينسون دائما أنهم سيكونون الضحية التالية بعد سيطرة الأعداء على الأمة، حينها سيكونون أوراقا محروقة لا نفع لها.
قبل وفاته سُئل هتلر: من أحقر الناس الذين قابلتهم في حياتك؟
قال: أحقر الناس الذين قابلتهم في حياتي هؤلاء الذين ساعدوني على احتلال أوطانهم.
أول من يحتقر الخائن هو من استعمله واستخدمه ووظّفه، فهذا نابليون بونابرت يُلقي الذهب في وجه ضابط نمساوي عميل لقاء عمالته، فطمع الضابط في أن يحْظى بمصافحة بونابرت، فقال الأخير: هذا الذهب لأمثالك، أما يدي فلا تصافح رجلا يخون بلاده.
ما أكثر أبناء العلقمي في الأمة، هم كُثُر، وعمالتهم لها ألف وجه، فليس الخائن هو فقط من يُمكّن الجيوش من احتلال بلاد المسلمين، إن الذين ينتسبون إلى هذه الأمة ثم يقومون بغزو عقول أبنائها بالأفكار الهدامة الوافدة، والقيم الدخيلة المُشوّهة، أولئك لا يقلّون حقارة عن ابن العلقمي، أولئك الذين يعبثون بعقيدة الأمة وتراثها وثوابتها، تحت مظلة الرقي والمدنية والتقدم والوعد بشرق أوسط جديد والثورة على الثوابت والنصوص!!
لَبِئْس ما قدمت أيديهم وعقولهم، أولئك الأفراد الحمقى الذين التمسوا المجد والشهرة والمال والسلطة ببيع الدين والأوطان، وفي التشغيب على راية الإسلام العظمى، حتى أوقعوا الناس في الريبة والشك في سلامة المنهج الإسلامي، تدعمهم أنظمة لا هَمّ لها سوى الحفاظ على العروش بالتبعية المُخلصة للغرب وبتقديم عروض المزيد من الانبطاح ضمن مسلسل التنازلات الذي يتسابق أغلب القوم في إثبات تفوّقهم في تقديمه على أكمل وجه مُسربل بالخزى والخيبة والعار، نسأل الله أن يطهر بلادنا منهم..
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
أضف تعليقك