• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانيتين

كنت تحدثت في المقال الماضي عما أسميته بالحاجة إلى الليبرالية الإسلامية، وقد أثار ذلك موجة من الغضب والضيق لدى عدد واسع من القرّاء، وسيلا من التعليقات تراوحت بين الرفض القاطع والمستنكر، وبين والتحفظ والاعتراض.

لكن دعنا نتجاوز العنوان الذي يميل إلى شيء من الاستفزاز، وقد تقصدت ذلك بغية إثارة بواعث التفكير الحر لدى القارئ العربي.. دعنا نترك لعبة المدح والذم والتقاذف بالأسماء والمصطلحات برهة، ونسعى للتفكير في الأمور بروية وعقلانية، ونطرح الأسئلة السليمة ونضعها في سياقها السليم، بدل التجادل حول الألفاظ والمصطلحات:

هل من حاجة لقيام دول حرة وعادلة في عالمنا العربي تحترم قيم الشعب وثقافته ودينه، مع صيانة حرية الضمير والمعتقد وتعدد خيارات الحياة؟

هل من حاجة لتقييد الحكم المطلق الذي يفتك بأجسام وارواح العرب والمسلمين في أكثر من موقع ومكان؟

هل هناك ضرورة لضبط السلطة المتوحشة برباط الدستور والقانون، أم لا؟

هل هناك حاجة لفصل السلطات، وجعل بعضها رقيبا على بعض، وضمان استقلالية القضاء والإعلام ومؤسسات المجتمع المدني، أم لا؟

وهل في هذا ما يتصادم مع أسس الدين والمصالح المعتبرة للعالم الإسلامي؟

سبق لي أن ذكرت على صعيد الخيارات الاقتصادية الاجتماعية أن الليبرالية المتوحشة، التي تقوم على منفعة الفرد المطلقة ومفهوم المنافسة العارية، ليست حلا لعالمنا العربي الذي تفتك به الأمراض والأمية والفقر والتفاوت الطبقي.

ولذلك أكدت أهمية العدالة الاجتماعية والأخذ بأيادي الفقراء والضعفاء، في ظل نظام اقتصادي حر وعادل، وهذا التوجه أقرب إلى ما يعرف بالليبرالية الاجتماعية.

وإذا فصلنا الأمور على هذا النحو، وأجلينا مواطن الالتباس والغموض على القارئ الحصيف، فما مبعث الرفض أو الغضب مما طرحته في المقال السابق؟

ليس سرا أن الكثيرين تثور ثائرتهم بمجرد أن ترد على مسامعهم بعض المفاهيم والمصطلحات، دون أن يعطوا لأنفسهم فسحة من التامل والتفكير الجادين، فيشنون حربا لا هوادة فيها ضد الديمقراطية ومفاهيم الحرية والليبرالية وما شابهها، باعتبارها الشر المستطير.

والحقيقة أن هولاء يخدمون، بوعي أو دون وعي، الأجندات المعادية للإسلام والمسلمين، عبر تأكيد الأحكام الرائجة في الأوساط البحثية والسياسية الغربية بأن غياب الحرية والديمقراطية في العالم الإسلامي، والعربي منه على وجه الخصوص، مرده ثقافة المسلمين المعادية بطبعها لقيم العصر الحديث.

ولعل هذا ما يفسر تركيز وسائل الإعلام ومراكز الأبحاث في الغرب على أصوات التشدد والبلاهة السياسية، وتجاهلها أصوات العقلانية والاعتدال والعمق، لتؤكد كل المعاني والرسائل التي ترغب في بثها وفق القاعدة "وشهد شاهد من أهلها".

بجب أن يدرك القارئ الكريم والحصيف، أن الحلول السياسية التي قدمناها لمعالجة بعض مشكلات العالم الإسلامي، لا سيما العربي منه، قد لا تكون مثالية، ولكنها حتما غير مرغوب فيها من الآخرين، ولا هي مطروحة للتنفيذ والتطبيق في العالم لعربي، بل دونها مسافات وموانع شتى.

فالدولة المحايدة والعادلة، التي تحترم خيارات الأفراد والمجموعات، ليست برنامجا مطروحا على الشعوب العربية. المطروح هو الحكم الفردي القاهر، بوجه عسكري فاضح، أو وجه مدني مغلف، مدعوم من القوى الدولية المتنفذة.

والدولة المقيدة بسلطان الدستور والقانون، التي تتيح حرية الاعتقاد والضمير وتحترم ثقافة الشعب وقيمه، ليست خيارا متاحا اليوم امام المجتمعات العربية، بل المعروض عليها هي دولة الحكم الفردي الأهوج، دون ضابط أو رادع.. وقس على ذلك في بقية الملفات والقضايا.

حينما توفرت فرصة تاريخية للعرب مع موجة الثورات العربية، كي يجسدوا الحد الأدنى من تطلعاتهم السياسية في الحرية والكرامة والعدالة، التقى عليهم حلف شرس جمع بين قوى الرجعية العربية المرتعدة من الحرية والديمقراطية وارادة القوى الدولية المهيمنة، ليحيل الربيع العربي الواعد سلسلة من الفوضى والحروب الأهلية والانقلابات العسكرية، قطعا للطريق امام انتصاب أنظمة ديمقراطية حرة، تعبر عن إرادة شعوبها وتحرص على خيراتها.

ولو تركت شعوب الربيع العربي لشأنها، دون ذلك الكم الهائل من التدخلات والدسائس، لرأيْناها اليوم تحث الخطى صوب أنظمة حكم أكثر عدلا وديمقراطية، وأكثر أمنا واستقرارا.

بيد أن معسكر الاستبداد العربي المحصّن دوليا صمّم أن يفرض معادلة عسيرة مشوهة على الشعوب العربية: إما نحن أو الجحيم.. إما استمرار الحكم الفردي البائس الذي يضمن لكم استقرارا زائفا مفروضا بقوة الحديد والنار، أو الويل والثبور: فوضى وفتن وأنهار من الدماء.

إن معركة الحرية والديمقراطية، أو حتى الليبرالية بمعناها السليم إن شئتم، شاقة ومرهقة في عالمنا العربي، ولا يتوهمْ أحد أنها سهلة البلوغ والمنال.

وهي إلى ذلك مغالبة حتما لرياح الردة التي تقودها دول إقليمية متخلفة، تستأثر بالسلطة والثروة وتسوس الأرض ومن عليها، مستقوية بدولارات النفط والسند الإسرائيلي.

والمشروع الديمقراطي هو مدافَعَة للقوى الدولية الكبرى التي كانت تتحكم في مصير شعوب المنطقة بالاحتلال العسكري المباشر، واليوم تفرض عليها هيمنتها من وراء الحجب بالتدخل السياسي والاقتصادي، وحتى بالعسكري السافر إن هي شاءت.

أوضاعنا ليست مزرية تعشش فيها الدكتاتوريات وأنظمة الحكم الفردي المتخلف؛ لأننا معشر العرب نعشق الدكتاتورية والحكم التسلطي بالسجية، أو لأننا نبغض قيم الحرية والتحرر، كما يزعم بعض الكتاب الغربيين.

الحقيقة هي أن واقعنا السياسي العربي مريع؛ لأن هناك إرادة دولية متحالفة مع قوى عربية متكلسة متخلفة، لا تألو جهدا في فرض الدكتاتورية وأنظمة التسلط العسكري.

فهل يشك أحد اليوم في أن الجنرال السيسي، الذي انقلب على رئيس منتخب وساقه إلى غياهب السجن، ليس صنيعة أمريكية إسرائيلية خليجية؟

هل يشك أحد في أن هذا الذي زج بكل منافسيه السياسيين المحتملين في الزنازين، ويهيمن اليوم على القضاء والصحافة والإعلام وكل شيء، ليس مسنودا حتى النخاع من القوى الدولية الكبرى، بعد أن قاد انقلابا عسكريا مضرجا بالدماء؟

وإذا صح فعلا أن الغرب الليبرالي والديمقراطي يريد الديمقراطية لنا ويناهض الدكتاتورية، فأيهما أدعى للضغط والمعارضة: هل هو أردوغان الذي أقل ما يقال عنه أنه نصف ديمقراطي في الحد الأدنى؛ لأنه منتخب بإرادة شعبية لم يشكك في نتائجها أحد، حتى الأمريكان والأوروبيون الذين يبغضونه؟

أم السيسي الدكتاتوري الجلف الذي يحث الخطى صوب نظام المبايعة وفرض سياسة الأمر الواقع بدل الانتخاب؟

هل هناك منطق يحكم هذا الاستهداف المركز لأردوغان وغض الطرف عن السيسي، إن لم يكن امتداحه والثناء عليه؟

طبعا، يجب ألا نعمم عند الحديث عن الغرب، فهناك قوى وتيارات غربية تحررية تدفع نحو العدالة والإنصاف واحترام الحرية والديمقراطية، استنادا إلى قيم كونية منصفة، وهي موجودة في مواقع مختلفة.

ولكن يظل الصوت الأكثر ارتفاعا وسطوة هي تيارات الهيمنة، بحساباتها البراغماتية الباردة المعللة بالمصالح القومية و"الاستقرار العالمي". كل هذا يبين أن معركة الحرية والديمقراطية ليست بالأمر الهين في أوطاننا.

إن كنّا نتصور أن القوى الخارجية تريد لنا الحرية والديمقراطية، ومن ثم علينا رفضها، مناهَضة للهيمنة، فهذه محض أوهام، بل المعروض عليكم، فرضا لا اختيارا، أيها العرب، هو حكم البطش والقهر ومستنقعات التخلف والتردي.

لذا، من العبث الاستمرار في هذه المعارك الوهمية ومصارعة طواحين الهواء ضد الليبرالية والديمقراطية والحريّة. الأحرى والأولى تجنيد كل الطاقات والإمكانيات من أجل معركة الحرية في الداخل، ولن تكون إلا ملازمة لمعركة التحرر من هيمنة ووصاية الخارج، بدل التمادي في لعن الحرية وسب الليبرالية.

أضف تعليقك