أتذكر، قبل ربع قرن، كان وضع كلمة إسرائيل في عنوان صحافي، من دون مزدوجين (علامتي تنصيص) كفيلاً باتهام صاحبه بلوثة التطبيع، فيما كان آخرون يعتبرون استخدام مفردة “إسرائيل” مكان “العدو الصهيوني” تفريطاً وخيانة للقضية.. الآن أجد نفراً من هؤلاء يتمايل في خلاعةٍ احتفالاً بصفقة الغاز، أو صفقة العار.
غالبيتهم منشغلون بالحديث حول الجدوى الاقتصادية لموضوع استيراد الغاز الإسرائيلي إلى مصر، يشتبكون حول الأرباح والخسائر، وهذا بالضبط ما سعت وتسعى إليه إسرائيل، بحيث تتحول المسألة من صراعٍ مع عدو تاريخي، محتل وغاصب وقاتل، بيننا وبينه دم، إلى تشارك وتنافس على أرباح وعوائد.
كان مفهوماً أن تطغى حسابات الجدوى الاقتصادية ومعايير الشطارة التجارية على نقاشات معسكر عبد الفتاح السيسي، ذلك التيار الذي أنفق الكيان الصهيوني مليارات الدولارات لتمكينه وتثبيته في حكم مصر، باعتراف الصهاينة أنفسهم، وبشهادات محسوبين على هذا التيار، النائب عماد جاد نموذجاً.
لكن غير المفهوم أن تنخرط أصواتٌ محسوبةٌ على معسكر مقاومة هذا الانسحاق السياسي والحضاري أمام القوة الصهيونية في نقاشاتٍ من هذا النوع، وعلى أرضية القيمة الاقتصادية المضافة، أو المهدرة، نتيجة تلك الصفقة الشائنة، في حين يتوارى الحديث عن الخسارة السياسية والروحية في الصفقة التي تفتح الأراضي المصرية أمام الصهاينة مدة عشر سنوات.
وأزعم أن رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي كان يقصد هذا المعنى، وهو يزفّ إلى المستعمرين الصهاينة نبأ الصفقة، معتبراً المناسبة يوم عيد، يتحول فيه الاحتلال من عدوٍّ إلى شريك تجاري وراعٍ سياسي للنظام الحاكم في مصر. وكما قلت، قبل عام مضى، إن مشروع “30 يونيو” في 2013 كان، إسرائيلياً، يتأسس على معادلة استئصال الإسلام السياسي، في مقابل دمج إسرائيل، لتأتي اللحظة التي باتت معها إسرائيل على ثقةٍ بأنه لم يعد ثمة رد فعل على ما تفعله، وضمنت أن خطة تخليق “المواطن الوغد” قد نجحت، عن طريق رجلها الذي صنعت له انقلاباً ناجحاً على السلطة في مصر، وأن ما زرعته، ولم تبخل عليه بالحماية، في يونيو 2013 قد أينع وأثمر، وها هو الحصاد يتساقط تحت أقدامها، فتسعى إلى تحقيق كل أحلامها في السيطرة والهيمنة والعلو.
إذن، لا مفاجأة في أن يتراقص الأوغاد على إيقاعات صفقة الغاز، وينقلون الموضوع إلى الاشتباك حول الأرباح المتوقعة، ويسقطون كلمة “العدو” من قاموس التعاطي مع الكيان الصهيوني، لكن المفاجئ والصادم حقاً أن يكون ذلك هو المدخل لدى قطاع من النخب المصرية، باختلاف أطيافها السياسية، عند مناقشة المسألة.
شخصياً، صدمني تعليقٌ للدكتور محمد محسوب، أستاذ القانون والوزير السابق في أول حكومة مشكلة بعد انتخاب الرئيس محمد مرسي، يتحدّث فيه عن الصفقة، مانحاً الكيان الصهيوني تعريف”المنافس الحضاري”، وهو تعريفٌ لا يحلم أكثر الصهاينة تفاؤلاً بأن يصدر من صوت محسوب على الثورة المصرية، والمعارضة الجذرية لنظام سياسي يستمد وجوده في السلطة من الرضا الإسرائيلي عنه، بل ويحرق ويدمر كل شيء في مصر، تزلفاً من مشروع صهيوني يهدف إلى الهيمنة الشاملة على المنطقة. وبالتالي، فإن اعتباره منافساً يمنحه شرعية الوجود على أنقاض تاريخنا وجغرافيتنا، وفوق أشلاء شهدائنا وأسرانا، من أول عز الدين القسام وأمين الحسيني وليس انتهاء بالشهيد أحمد جرار والأسيرة عهد التميمي.
أيضاً، ما هو العمق الحضاري لمجموعة من المستوطنين الذين جلبهم الاستعمار القديم، وزرعهم في أرضنا، وفوق رفاتنا، قبل أقل من سبعين عاماً فقط من عمر التاريخ؟ وكيف يمكن أن يكون ذلك الخليط الهجين من شعوب وثقافات متناثرة ومتنافرة مكوناً لسبيكة حضارية، تصنف منافساً لشعب عربي تمتد جذوره في عمق هذه الأرض لآلاف السنين؟ وما هو المنتج الحضاري الذي قدمته مجموعات المستعمرين، المجلوبين، من أشتات الدنيا، سوى قيم القتل والإبادة والحرق وسرقة التاريخ والجغرافيا، حتى نصنفهم منافساً حضارياً؟
أكرر ما كتبته قبل يومين: الأخطر من إسالة الغاز هو تسييل المفاهيم والمصطلحات.
أضف تعليقك