ستظل هنالك دائما أحداث تعبُر واقعنا، ثم لا تترك حالنا بعدها كما كانت قبلها، لأنها تنتشلنا من حضيض اليأس، تخلصنا من ضباب الأسى، وتعيدنا من مسارات التيه الاضطرارية، أو التي سلكناها تضامنا مع وهن عزائمنا وخفوت ندائها.
ليس أولها ولن يكون آخرها، حدث استشهاد المجاهد ابن المجاهد، المنتصر ابن المنتصر، والشهيد ابن الشهيد، أحمد نصر جرار في جنين، بعد مطاردة الاحتلال له مدة شهر.
أحمد الذي انتصر عليهم مرّات عديدة: الأولى حين خاض لجة الصعاب وتحداها مسجلا ببندقيته بصمة البطولة الأفخم في هبة القدس الأخيرة، والثانية حين باغت اقتحام أعدائه لمنزله، ونجا منه، يوم أصيب منهم اثنان، رغم تحصنهم بالدروع واحتشادهم بالعشرات من حوله، والثالثة يوم السبت الماضي حينما دمغ عملية واسعة لتعقّبه في جنين ومحيطها بالخيبة، والرابعة حين صعدت روحه إلى السماء بعد خوضه اشتباكا مع عدوه، والخامسة والسادسة والسابعة أنبأَنا بها أثره الباقي وحضوره المقيم في المشهد الجهادي الفلسطيني، وستدلّنا عليها كل حالة اتخذت من أحمد مثالا ومن نصره خيارا.
كيف للدهشة أن تفاجئنا اليوم ونحن نتمعن في معاني الحدث ونتأمل دلالاته؟ ألم ينشأ أحمد متسربلا بالنور؟ محفوفا بنفح من بطولة والده التي لم تكن عادية أيضا، فوالده الشهيد البطل نصر جرار، كان قائدا كبيرا في كتائب القسام، خاض معارك اشتباك عديدة مع جنود الاحتلال، وجهّز عمليات عسكرية، وظل قابضا على زناد بندقيته رغم فقده معظم أطرافه في المعارك المتتالية التي خاضها، فكان في الأدبيات الفلسطينية المعاصرة يُشبّه بجعفر بن أبي طالب في معركة مؤتة حين أخذ اللواء بيمينه فقطعت، فأخذه بشماله فقطعت، فاحتضنه بعضديه حتى استشهد رضي الله عنه.
يقولون إن (مَن خلّف ما مات)، وهذا يصدُق فيمن يرتحلون مبكرا من الرجال ويتركون ذرية تحمل أسماءهم وتحيي نسبهم، لكنها في حال الرجال الذي يخلّفون رجالا أعظم شأنا، لأن هؤلاء لا يتركون خلفهم أعدادا ولا أبناء عاديين يحملون أسماء آبائهم الراحلين وحسب، لكنهم يحملون آثار خطاهم وبقية ألقهم، يضاعفونه في نفوسهم حتى يصبح شلالا من نور، فيضيئون به عتمات الأيام، وينفحون في أوجاعها سيرة آبائهم المجاهدين، فتبرأ وتنتشي ويتجدد في خلايا دمها اليقين.
هؤلاء الكبار لا يتركون بأفعالهم عذرا لأي أحد، لا للذي يتعلل بأن للجهاد عمرا افتراضيا يتعب بعده صاحبه ويلتفت لنفسه، ولا للذي يقول إن ما قدمه الأبُ يُسقط الواجب عن بقية أهل بيته، ولا للذي يدّعي أن الانشغال بقتال الأعداء يصرف المرء عن تربية أهله وأبنائه، فيضيعون بغيابه، وتسوء أحوالهم وأخلاقهم، وتنكسر أجنحتهم برحيله، ولا لمن يرى أن ضيق الحال وتراكم التحديات يفرض على بعض الناس أن يدّخروا أنفسهم لأوقات أخرى، تنفرج فيها الغمة، ويكون أداء الواجب فيها أيسر وأهون.
تلك ذرية بعضها من بعض، تعيش حياتها في ذروة المجد، وتلاقي ربها في أبهى هيئة وأحسن حال، وشهادة كهذه تلزم المرء أن يعتكف في محرابها صامتا ردحا طويلا، حتى يتسرب عطرها إلى كل ذرة في جسمه، فلا تبقي فيه ثغرة يتسلّل منها اليأس، بل تحمله على استشعار معاني النصر حتى وهو مكبّل ومحاصر ومثقل بالمحن.
إما أن تكون شهادة الانتصار كتلك التي حازها أمثال أحمد، أو لا تكون، هذا مضمار التنافس الأرفع بين الرجال، وعَبرهُ تتمحص النفوس وتتمايز الهامات، وفي نهايته يرتفع نجم حقيقي، ويأفل آخر وهمي زائف. هذه الروح المنتصرة تمثّل أنبل رجالنا، تهدهد أوجاعنا، ترتق عيوبنا، تضمّد نزفنا، وتنتمي لمجموعنا، وهذا الفتى اليافع الجميل ابن هذه الأرض كلها، وبرهان ثرائها بالكنوز، وضوء نجمه ينير كل دروبها، ولا يغادرها، ولا تغيب ابتسامته عن سمائها، لكنها تقول للواقفين على مشارفها: “هذا سبيلي، إن صدقتَ محبتي فاحمل سلاحي”.
أضف تعليقك