حينما أعلن الرئيس الأمريكي عن القدس عاصمة أبدية لإسرائيل، وقرر نقل سفارة بلاده إليها، توالت الانتقادات العربية الرسمية للقرار، ورأينا في الوقت ذاته كيف أن دولا، مثل السعودية ومصر، ضالعة بشكل أو بآخر في مثل هذا القرار، وإن كانتا قد انتقدتاه علنا.
وبالنسبة للسلطة الفلسطينية، فقد كانت أكبر المتضررين من القرار، ولكنها في الوقت ذاته تخوفت من اتخاذ إجراءات ضده. كما لم تستدع المجموع الوطني لمواجهته، ولم تلجأ لتفعيل المصالحة للاتفاق على برنامج وطني يتضمن الثوابت الفلسطينية للتجييش الشعبي رفضا للقرار الأمريكي. وفي موقف مماثل، لم تتمكن السلطة في الأردن من مواجهة القرار؛ تخوفا من تداعيات ذلك على اقتصادها ودورها.
استفراد وتمسك سلطوي بالسلام
واستمرت السلطة الفلسطينية في التنسيق الأمني مع الاحتلال، رغم إعلانها وقفه، وهذا ما يفسر استمرار وتصاعد حملات الاعتقالات الإسرائيلية في الضفة، واستمرار التصفيات للمقاومين، وكان آخرها تصفية أحمد جرار. فضلا عن ذلك، تصاعدت في الآونة الأخيرة حملة الحصار التي يشنها عباس شخصيا على قطاع غزة، والتي تزيد من معاناة أهلنا هناك، بدلا من أن يقوم من يطلق على نفسه رئيس دولة فلسطين بحل مشاكل القطاع، والسعي الجدي نحو المصالحة التي سيكون من نتائجها فك الحصار عنهم.
وحين اتخذ المجلس المركزي للمنظمة قرارا بسحب الاعتراف بإسرائيل، لم تنفذه اللجنة التنفيذية، وأبطله نفس الشخص؛ مخافة أن تحاصره إسرائيل وتعزله في المقاطعة، كما فعلت من قبل مع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات!
وأدى كل هذا إلى تنفيس المعارضة للقرار الأمريكي، وإغراء ترامب بمزيد من الإجراءات ضد الفلسطينيين.
وساهمت الضغوط الأمريكية والتهديد بوقف التمويل عن السلطة، والتلويح لها بالبديل من خلال تصريحات أدلت بها المندوبة الأمريكية في مجلس الأمن؛ في تليين وإضعاف موقف القيادة الفلسطينية التي أصرت على التعامل مع القرار الأمريكي، وحدها دون التسلح بالمعارضة الشعبية والوطنية!
وفي هذا السياق أيضا، جاءت تصريحات المبعوث الأمريكي لمفاوضات السلام، جايسون غرينبلات، مفادها أنَّ الفلسطينيين ليسوا الطرف المقرّر في صفقة القرن، وأنها خطة للتنفيذ وليست للتفاوض، وغرضها إقامة تحالف إقليمي يضم "العرب" وإسرائيل لمقاومة الخطر الإيراني وخطر الإرهاب، مؤكدا على وضع برنامج زمني لتصفية وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) خلال أعوام محدودة. أي تصفية قضية اللاجئين وحقهم في العودة.
وهذه تصريحات الهدف الأهم منها تخويف السلطة والأردن، أكثر منها برنامجا عمليا قابلا للتطبيق، ولكنها بلا شك ألقت الرعب في قلوب قيادات السلطة الفلسطينية!
أما الضغوط العربية، فلم تكن أقل شدة، خصوصا أنها تمسك بعصب التمويل للسلطة.
ويمكن القول إن السلطة بدت بموقف ضعيف تمثل بالآتي:
1- التمسك بما يسمى بعملية السلام والدعوة لرعاية دولية لها، متجاهلة أن هذه العملية باتت بحكم الميتة، وأن واشنطن لا تزال صاحبة القرار الفصل فيها.
2- إدارة الظهر للمعارضة ولشركائها في القرار الفلسطيني، واستمرار المماطلة في عملية المصالحة.
3- استمرار محاصرة قطاع غزة والضغط عليه نحو الانفجار؛ رغبة في إرضاء الطرف الأمريكي بأنه لا يزال يحارب العنف والإرهاب، وإلى جانب ذلك استمرار التنسيق الأمني عمليا مع الاحتلال ضد المقاومة.
4- التخلي عن كل أدوات القوة التي يمكن أن تمتلكها السلطة، باستعداء المعارضة والشعب الفلسطيني وإدارة الظهر للمعارضة في مواجهة القرار الأمريكي الذي يمس قضية مركزية.
وأدى ذلك إلى استمرار ما يسمى طبخة صفقة القرن؛ التي ستمس اللاجئين بالتوطين في سيناء والأردن، واستمرار الاستيطان وتكريس هيمنة الاحتلال على الضفة الغربية.
ضغوط عربية
وفي هذا السياق، جاء الموقف الأردني المعارض بشدة للقرار الأمريكي من زاويتين:
الأولى: تحويل الأردن إلى دولة فلسطينية من خلال التوطين وتمكين الفلسطينيين من الحكم، الأمر الذي قد يمسح البلاد من على الخارطة السياسية، ويهدد وجودها أصلا دون الحصول على أي امتيازات عربية أو أمريكية للمساهمة في التوطين.
الثانية: سحب الولاية الدينية على المقدسات الإسلامية في القدس، والتي عرفت تاريخيا أنها للهاشميين، الأمر الذي يشكك بدورهم ونفوذهم، ودخول السعودية على هذا الخط لضم الولاية على القدس لولايتها على مكة والمدينة، واستثمار إمكاناتها المالية في سبيل ذلك.
إلا أن هذه المعارضة لم تنجح في وضع حد للقرار الأمريكي، وذلك لاستمرار حاجة الأردن للمساعدات الاقتصادية العربية والعسكرية من الولايات المتحدة.
وقد حاولت عمّان الخروج من هذا الطوق بإعادة ترتيب تحالفاتها الإقليمية، ولكنها نجحت فقط في إضافة تركيا لقائمة تحالفاتها، إذ دعم أردوغان الولاية الدينية للأردن على المقدسات الإسلامية في القدس. ولكن الأردن لم يتمكن من تغيير تحالفاته القائمة، ولا أن يستعيض عنها بتحالفات جديدة.
ومن هنا، لم يتمكن الأردن من مواجهة القرار الأمريكي، وإن كان أعلن ولا يزال أنه ضده. إلا أن هذا الموقف يبقى مكبلا ضمن اعتبارين:
الأول: حدود موقف الأردن من التسوية السياسية والعمل داخل دائرتها وليس خارجها، وهو الموقف الذي كرسته معاهدة وادي عربة واتفاقيات التعاون مع إسرائيل، وحماية حدوده معها من أية محاولة لاختراقها أمنيا وعسكريا.
الثاني: حاجة الأردن كبلد محدود الموارد للمساعدات الخارجية من الولايات المتحدة والدول العربية، وارتباط الدول المانحة مثل السعودية بالموقف الأمريكي من صفقة العصر، وعدم تمكن الأوروبيين من الخروج من إسار الموقف الأمريكي في المنطقة حتى لو كانوا غير راضين عنه، أي أن المساعدات العربية والأوروبية مرتهنة بموقف واشنطن التي قدمت في عام 2017 مساعدة للأردن بقيمة 1.3 مليار دولار، أبرزها في مجالات الدعم العسكري والتعاون الأمني في محاربة الإرهاب. ووقع البلدان في شباط/ فبراير 2015؛ مذكرة تفاهم غير ملزمة لثلاثة أعوام، أكدت فيها واشنطن على نيتها تقديم مليار دولار سنويا مساعدات للمملكة، شاملة 300 مليون دولار مخصصة للتمويل العسكري.
ومن المهم الإشارة إلى العلاقة الاستراتيجية التي تربط البلدين ببعضهما، والتي لا تسمح لأحدهما بالتراجع عنها.
إمكانات المواقف وحدودها
وهكذا، لا تبدو خيارات السلطة والأردن واسعة إذا ما أخذناها من ناحية حاجة الطرفين للمال وللدعم الأمريكي، ولكنها تبدو غير ذلك إذا ما أخذناها من ناحية حاجة الأمريكيين لدوريهما الحساس والمهم.
فلا تمرير لصفقة القرن بدون السلطة سواء بعباس أو بديله كما يتم التلويح به الآن (قد يكون دحلان)، وهذه السلطة غير متمكنة أصلا؛ بفضل المعارضة الشرسة لحماس والدور الشعبي الذي تقوم به في مواجهة هذه الصفقة وإمكانية السلطة لو أرادت الاستفادة من هذا الدور، الأمر الذي يعرقل الصفقة على الأرض.
ولا نجاح لهذه الصفقة دون بصمة الأردن فيها، فهو الذي يضم أكثر تجمع للاجئين الفلسطينيين الذين يقولون لا لتوطينهم وإلغاء حقهم في العودة لبلادهم. وهو الذي يتمسك بالولاية الدينية على القدس، كما ويحفظ أطول حدود مع العدو؛ يمكن في حال فلتانها أن تشكل تهديدا وجوديا للعدو على أرضنا المحتلة.
وهذه بعض من عوامل قوة الأردن لو قرر استخدامها لفرملة الصفقة!
إلا أنه من المؤسف أن أيا من الطرفين لم يقرر استخدام قوته، ولم يحرك ساكنا على الأرض لوقف الصفقة المدمرة حتى لهذين الطرفين نفسيهما، وذلك ضمن موقف عربي منهار أو متآمر.
نسمع كلاما وتهديدات، لكننا لا نرى فعلا على الأرض، وهذه المشكلة تخص كل الأنظمة في المنطقة، التي ترى أن قوتها واستمرارها بيد عدوها لا بيد شعوبها.
أضف تعليقك