ترددت كثيرا في أن أكتب في هذا الموضوع وأن أحرّض على ممارسة النقد الذاتي، واتخذت في ذلك قرار التأجيل حتى تنضج الأمور؛ لتقبّل بعض الكلام الذي سأقوم بكتابته في هذا المقام، إلا أن هناك مشهدين دفعاني لأن أبادر بالكتابة في هذا الموضوع الذي أعتقد أن أحدا لا يماري في أهميته وضرورته، ولكنه قد يعترض على أصوات تطالب بذلك أو أشكال من النواقص قد يتحفظ عليها..
كان المشهد الأول هو تنامي بعض الكتابات المهمة على صفحات التواصل الاجتماعي وفي بعض المقالات؛ حول قيام بعض الأقلام بممارسة هذا النقد، حركات أو تكوينات ينتمي إليها هؤلاء، لم يمنعهم هذا الانتماء أن يكتبوا النواقص عن انتقادات لبعض الأحداث وبعض المواقف، وكان ذلك بالنسبة لي يعد مؤشرا على نضج ما يلوح في الأفق، ويحقق بعض ما نبتغيه من نتائج في هذا الطريق.
أما المشهد الثاني، فإنني قد حضرت احتفالا مهما لذكرى 25 يناير في فضائيتين مهمتين تشاهدهما أعداد لا بأس بها؛ قد حمّلت هذه الاحتفالات موقفا بدا متناقضا، ولكنني رأيته ناضجا على طريق النقد الذاتي.. شباب إحدى الجماعات قدموا نقدا مرا لبعض قياداتهم ولكثير من أفعالها ومواقفها، إلا أنني لاحظت في نفس الوقت أن هؤلاء أنفسهم حينما تطرق البعض إلى نقد ذات الجماعة بأقل ما ينتقدون بكثير؛ أصابهم مزيد من الرفض وبعض من الهياج. تأملت هذه الظاهرة وذلك المشهد، فوجدت أن هناك قدرا من الحساسية ما زال يستوطن القلوب والعقول بين توجهات مختلفة، منها الإسلامي والليبرالي، ومنها القومي في طبعاته المختلفة، ما يشير ويؤكد أن النقد الذاتي - خاصة عند الشباب - يكون مقبولا ومطلوبا، أما نقد الآخرين، ولو كان هينا أو جزئيا، ربما يكون أمرا غير مقبول، وهذا الموقف، أيا كانت دوافعه وأسبابه تؤشر بنضج يتعلق بالنقد الذاتي، في واحد من أهم مساحاته وأبوابه.
المهم أن هذين الموقفين جعلاني أغامر بتلك المحاولة لفتح هذا الباب؛ الذي يؤكد أن كثيرا من الأطراف المختلفة والقوى السياسية المتنوعة لم ترق إلى المستوى المناسب والملائم للقيام بممارسات تتعلق بالنقد الذاتي، وتأسيس قواعد لانطلاق شرارته، مما يفيد كافة الكيانات في مراجعة ذواتها، وفي محاولات تصحيح مسيرتها. وأقول بحق إن مدارسة النقد لا تملك قبولا عاما من كافة الاتجاهات والقوى، ويبدو لي أن لذلك أسبابه المتنوعة (وقد نقف في مقال قادم عن تلك الدواعي التي ترتبط ببيئة النقد بوجه عام، والنقد الذاتي على وجه الخصوص)، فإن البيئة تعد غير مواتية للقيام بكل ما من شانه أن يٌمَكّن بممارسة واسعة لنقد شامل، ومراجعة كاملة قادرة على أن تضع يدها على كثير من الأمراض؛ مثّلت أمراضا مزمنة في الكيانات والتكوينات طالت كافة القوى، بغض النظر عما تؤمن به من أفكار. فرغم أن كل تكوين من هذه التكوينات وأيديولوجيته تملك محرضات ودوافع وحوافز للنقد، إلا أن حواجز نفسية وتربوية منعت في النهاية من ممارسة هذا النقد الحقيقي بوجه عام، باعتباره فضيلة تأسيسية وسياسية، كما امتنع ممارسة النقد الذاتي في ذات الوقت على نطاق واسع وعلى نحو مأمول.
فالنقد الذاتي إنما يشكل ممارسة مهمة يؤكد فيها الإنسان على إنسانيته وقابليته للخطأ والصواب معا. وإننا في حقيقة الأمر لسنا في مجتمع من الملائكة، أو مجتمع من الأفراد المعصومين الذين لا يأتيهم الباطل أو لا يقترفون أخطاء. هذه التصورات الخطيرة هي التي تجعل الأمر يتعلق بحساسية الحديث عن الأخطاء. ومن الأمور المهمة في هذا المقام، أن نذكر أن النقد الذاتي في غالب أمره لا يمارس من قبل كثيرين؛ من باب "أخطأنا فقد أخطأ غيرنا". وضمن هذه المقولة، يؤكد البعض أننا "كلنا في الهم شرق"، ويحكم ذلك قاعدة شعبية مفادها "لا تعايرني ولا أعايرك.. الهم طايلني وطايلك".. سد هذا المنطق العجيب أبواب النقد الذاتي، وها هي أيضا جماعات طال بها الأمد وطال بها الزمن لا زالت تتصور أن النقد الذاتي هو أمر سلبي في آثاره ومآلاته، وأننا بأيدينا ننشر الغسيل القذر، ونسمح للخصوم والأعداء بأن يعايروننا بهذه الأخطاء! وهو أمر يتأكد من أن ممارسات النقد الذاتي صارت داخل تلك الكيانات مستهجنة ومستبعدة؛ لأن ما يترتب عليها قد يؤدي إلى مشاكل على الكيان ومستقبله وعلى وحدته وتماسكه.
يرتبط بذلك ما يمكن أن نعده من أخطاء التنظيم، ومن بعض الكوارث التي تتعلق بتصور عناصر الجمود والتجميد في كيانه وعلاقاته. وعلى هذا، يعود الأمر إلى ما يمكن تسميته عناصر "الانضباط داخل التنظيم" و"الالتزام التنظيمي". فليس لكل أحد أن ينتقد أو ينبه، وفي كثير من الأحيان يكون خطاب الشيوخ للشباب "إلزم حدك"، كما يرتبط بذلك أيضا تصور الشيوخ والعجائز بأنهم أصحاب الحكمة الصافية والعقل الراجح والخبرة المتراكمة، فما بال هذا الشباب "الأهوج" يأتي بكلام من هنا وهناك، يستمع إليه بلا سند، ويروج له بلا عقل!! والبعض قد يؤثر السلامة، لما يسببه نقده من نقد واسع يترتب عليه؛ في شكل هجوم واسع قد يؤدي إلى عزله وتشويهه، فيؤدي ذلك منه إلى الامتناع ابتداء عن النقد أو الكلام على صدق موقفه، كما تفرز لديه غدد تتعلق بالاحترام للكبير؛ خجلا مما يسكنه عن الكلام والنقد المباح مما يمنعه من صدق الكلام والتعبير.
كذلك من الأسباب الواضحة والظاهرة في هذا الشأن؛ هو قول حق لا يؤخذ في مساره وفي سياقه، وهي قولة يستعيرها البعض من مخزون التراث الذي يخرج عند الطلب ليؤكد أن النصيحة ليست كالفضيحة، وأنه لو أراد أن يوجه أمرا يتعلق بنقد فعليه أن يمارسه في سره وسرا. وتبدو الأمور بعد كل ذلك وكأنها حالة تجميد متعمدة.. "يا هذا لا تنطق، فإن الكلام إن كان ناقدا، حتى لو كان صحيحا، فيترتب عليه خطأ بل خطايا، وهنا تسود بيئة من الحذر لممارسة هذا النقد عامة، والنقد الذاتي على ذات الخصوص. وبدلا من أن تكون مقولة "كلنا أخطأنا" مدخلا لأن تٌشرع كل أبواب النقد واضحة وشاملة، وتقدم هذا النقد من أجل الاصلاح والتصحيح، فإنها للأسف الشديد - بدلا من أن تتخذ من هذه المقولة آفاقا واسعة للنقد الذاتي - تقطع كل طريق على ممارسة هذا النقد، سواء أكان عاما أو ذاتيا تحت دعوى أن الكل أخطأ "فاشمعنى أنا إللي أعمل النقد"، ويقول بصوت عال: "لما كله ينتقد نفسه أبقى أنتقد نفسي".
وهنا يتم تعطيل كل ملكات النقد، وكل أسبابه ودواعيه، رغم أن الجسد منهك وعليل يستحق تشخيص الداء والدواء، فيُبقون على هذا الجسد وحالة إرهاقه بدلا من أن يتلقى الدواء المطلوب ويستأنف حالة عافيته وعنفوانه. هذه كانت الخريطة والمبررات التي يسوقها كل هؤلاء من كل أيديولوجية أو تكوين، فيرفعون الحرج عن ذواتهم ولا يمارسون نقدا لذاتهم. وتظل الراحة التي يطلبونها راحة الجسد المنهك والضعيف العليل الذي لا يقوى على قيام أو نهوض. وفي حقيقة الأمر، ما تلك براحة، إنما هي في واقع الأمر استسلام خطر لواقع الحال، فيكون الأزمة من الجسد والأمراض المزمنة من الكيان، فيصير الأمر أخطر ما يكون حينما تتراكم حال المرض بلا تشخيص أو دواء، رغم أن الأمراض فادحة والأوجاع واضحة والآلام مبرحة.. فما بال هؤلاء يحتملون كل ذلك ويمنعون الكلام، حتى لو كان الكلام والنقد سيؤدي إلى صحة الكيان وعافية وأمان، فهو السلامة والسلام.
أضف تعليقك