• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانيتين

محمد مختار الشنقيطي

    أستاذ الأخلاق السياسية وتاريخ الأديان

أدرك كل العقلاء أن الأزمة الخليجية التي تفجرت يوم الخامس من يونيو 2017 لم تكن أزمة ضرورية، كما أدركوا أنها كلفت المنطقة أثماناً مادية ومعنوية فادحة كانت في غنى عنها. فهل بدأ العدُّ التنازلي لهذه الأزمة؟ وهل يمكن ترقُّب نهاية لها في ختام عامها الأول؟ توجد مؤشرات متراكمة تدفع لهذا الاستنتاج نبسطها في هذا المقال.

إن تتُّبع ما يصدر عن مراكز الدراسات الإستراتيجية الأميركية، وفي الصحف الأميركية القريبة من صنَّاع القرار، يشير إشارة لا تخطئها العين أن  ترمب أصبح على قناعة تامة بأن رفع الحصار عن قطر مصلحة أميركية حيوية، وأن رهانه على دول الحصار في بداية الأزمة الخليجية كان خطأ فادحا، سرعان ما تحول عبئا عليه وعلى الإستراتيجية الأميركية. ويبدو أن هذا الأمر قد فتح الباب لرؤية أميركية جديدة للأزمة الخليجية، أكثر إيجابية واتساقا، وأقل تناقضا والتباساً، مما رأيناه في بداية الأزمة.

لقد عبَّر ترمب بفجاجة عن تحيزه لدول الحصار في الأيام الأولى من الأزمة الخليجية، لكن المؤسسات الأميركية ذات الذاكرة المؤسسية -كوزارة الخارجية ووزارة الدفاع والمراكز البحثية- لم تقتنع بالحصار منذ البداية على ما يبدو، بفضل خبرتها بخفايا المنطقة وخباياها، وتمرُّسها بعقلية قادتها. وقد ظهر التضارب بين ترمب ومؤسسات الدولة العميقة الأميركية بشأن حصار قطر من أول يوم. فكان التحدي هو المصالحة بين ما تراه المؤسسات ذات الخبرة في السياسة الخارجية، وما يراه الرئيس ذو السلطة الدستورية القوية، والخبرة السياسية الضعيفة. ولم يكن بدٌّ من أن يتبدل رأي أحد الطرفين قبل أن يصبح لأميركا سياسة متسقة تجاه الأزمة الخليجية.

ويبدو أن الأسابيع الأخيرة شهدتْ تبدلاً جوهريا في موقف ترمب، اقترب فيه كثيرا من مواقف مؤسسات الدولة العميقة الأميركية. ولم يأت هذا التبدل في المزاج السياسي لدى الرجل الأول في البيت الأبيض جُزافاً، بل كان حصاد  مراقبة أميركية دقيقة لأداء طرفيْ الأزمة، وما لاحظتْه المؤسسات الأميركية من البصيرة الإستراتيجية والمرونة التكتيكية لدى القيادة القطرية، فضلا عن كسب قطر للقلوب والشعوب في صفها خلال هذه الأزمة، مقابل الارتجال والابتذال لدى قادة دول الحصار، وضعْفِ الأساس الأخلاقي والمنطقي لسياساتهم، وسقوط سمعتهم في الحضيض لدى الرأي العام العربي والإسلامي والدولي.

وكان للسياق الإقليمي المتحول دوره في إقناع صناع القرار الأميركي بضرورة الحل السريع للأزمة الخليجية. فقد خلقت هذه الأزمة ديناميكية إقليمية جديدة في المنطقة لم تكن في حسبان قادة دول الحصار، ولا في حسبان الرئيس ترمب. وأهم هذه الدناميكيات هي التدخل التركي في الأزمة الخليجية إلى جانب قطر، والتقارب التركي الإيراني الذي يوشك أن يسحب البساط من تحت أقدام الأميركيين، ويحقق الاستغناء عن المظلة الأميركية، ويمهِّد الطريق للقوى الدولية الشرقية (روسيا والصين) لانتزاع موطئ قدم في هذه المنطقة التي ظلت تستأثر أميركا بالنفوذ فيها لعقود.

وما جعل ترمب يميل إلى رواية دول الحصار في بداية الأزمة الخليجية هو أنه يشبه بعض قادة تلك الدول في المزاجية والارتجال وضعف الخبرة في العلاقات الدولية. فقد لاحظ مؤلف كتاب (النار والغضب) مايكل وولف أن "محمد بن سلمان المدْمن على ألعاب الفيديو نمطٌ جديد من القيادة في السعودية" وأن "رؤيته رؤية ترمبية." ووجد الكاتب أوْجُه شَبَه عديدة بين ترمب وابن سلمان، منها التعجل المفرط، والسذاجة السياسية، وضعف الإلمام بالشؤون العالمية. بل إن الكاتب وجد شبَهاً عاماً بين آل سعود وآل ترمب.

وقد ظهر من خلال كتاب (النار والغضب) مستوى السذاجة والتبسيط الذي قرأ به ترمب شؤون المنطقة في بداية حكمه، إذ يذكر المؤلف أن محمد بن سلمان وعد صهر ترمب جاريد كوشنر بأنه سيكون "رجُلَه في المملكة السعودية"! وبناء على ذلك ينقل الكاتب عن ترمب قوله لأحد أصدقائه المقرَّبين: "لقد كسب جاريد العربَ إلى جانبنا".! بيد أن المؤسسات الأميركية ذات الذاكرة المؤسسية لا يمكن أن تقرأ شؤون هذه المنطقة المتفجرة بهذا المستوى من التبسيط والسذاجة، ولا أن ترهن المصالح الأميركية الكبرى في المنطقة -وأهمها اعتمادها على الخليج في استيراد الطاقة- لمطامح شخصيّة متقلبة، أو اتصال هاتفي عابر.

وقد ألمحْنا من قبلُ -في المقال الأول من سلسة مقالاتنا عن "الأزمة الخليجية: أصولها وفصولها" ضمن هذه المدونات- إلى أن الأزمة الخليجية ترجع في جذورها وبذورها إلى صراع عميق بين رؤيتين إقليميتين متضادَّتين لمستقبل المنطقة، تبلورتا مع بدايات الربيع العربي، وتجلَّتْ كلتاهما فيما يشبه مدرسةً متيزة في التفكير والتدبير السياسي، وهما مدرسة "الإصلاح الوقائي" ومدرسة "الثورة المضادة" وأن كلا من المدرستين تتبناها دول حليفة لأميركا في المنطقة.

أما مدرسة "الإصلاح الوقائي" فقد تجلتْ في الرؤية القطرية-التركية-المغربية التي ترى أن تتاح الفرصة للشعوب لحكم نفسها -ولو تدريجيا- وبناء مؤسساتها السياسية بعيداً عن القهر الداخلي والهيمنة الخارجية، وأن الأفضل للحكام الذين نشبت ثورات في بلدانهم، أو ظهرت بوادر توحي بقرب ذلك، أن يلتقوا مع شعوبهم في منتصف الطريق، بما يحفظ على الثورات العربية طبيعة الإصلاح السلمي الذي بدأت به، ويجنِّب الشعوب والأوطان حروبا أهلية عدَمية بين الحكام والمحكومين يخسر فيها الجميع، ويقي المنطقة مزيداً من الانكشاف الاستراتيجي أمام القوى الإقليمية المتربصة، والقوى الدولية الطامعة.

وترى هذه المدرسة أيضا أن القوى الإسلامية الديمقراطية جزء أصيل من النسيج السياسي العربي، وأن الاستمرار في محاولة إقصائها -على نحو ما درج المستبدون في الوطن العربي- مجرد تأجيج للصراع في أحشاء المجتمعات العربية، وإبقاءٌ للدول العربية في حالة استنزاف ذاتي مدمِّرة. فالأوْلى القبول بالحركات الإسلامية ضمن خارطة القوى السياسية الشرعية، بدلا من محاربتها ونزع الشرعية عنها لصالح قوى خارجية تعادي الهوية الإسلامية، وتحارب حرية الشعوب العربية. كما ترى هذه المدرسة أن على القوى الدولية تكييف مصالحها مع مصالح الشعوب، إذا أرادت أن تكون لمصالحها مستقبل آمنٌ في هذه المنطقة.

وفي مقابل مدرسة "الإصلاح الوقائي" هذه، توجد مدرسة "الثورة المضادة" التي تجلَّت في الرؤية الإماراتية-السعودية-المصرية. وهي تؤمن بضرورة استئصال حركة الثورات الشعبية، وإعادة الشعوب العربية إلى بيت الطاعة بأي ثمن، ولو كان خراب البلدان وتمزق الشعوب، وشن حرب شاملة على الحركات الإسلامية الديمقراطية التي هي رافعة الثورات وطاقتها المتجددة، وهي التي كشفت زيف الاستبداد المتلبس بلبوس الدين الإسلامي في بعض الممالك العربية. وتعتمد هذه المدرسة سياسة تخويف القوى الدولية من أي تحول ديمقراطي، ومن القوى السياسية الإسلامية على وجه التحديد، وتصور الصراع معها صراعا وجوديا لا هوادة فيه. 

 وقد وجدت مدرسة "الثورة المضادة" في بعض أطراف اللوبي الصهيوني في أميركا، وفي بعض مؤسسات اليمين الأميركي، حليفا وثيقا لها، فتح لها بعض الثغرات في واشنطن، فكان موقف ترمب في بداية الأزمة الخليجية مثالا على ثغرة من تلك الثغرات. وكان من ضمن الثمن الذي قدمه قادة الثورة المضادة لحليفهم وعدٌ بإغلاق الملف الفلسطيني حسب الهوى الإسرائيلي ضمن ما دُعيَ "صفقة القرن." لكن مدرسة "الإصلاح الوقائي" تضع قدمها على أساس أخلاقي وإستراتيجي صلب، وهي تراهن على أن مصالح الشعوب ستنتصر على أهواء الحكام، وأن الموقف الدولي المعادي لحركة الشعوب -ومنه الموقف الأميركي- سيتغير في نهاية المطاف، بعد أن يدرك انسداد خيار الثورة المضادة.

ولا يمكن القول إن صانع القرار الأميركي يعيش "صحوة أخلاقية" اليوم، أو إنه قد بلغ من النضج الأخلاقي والحكمة السياسية ما جعله يتبنى الرؤية القطرية-التركية-المغربية في الإصلاح الوقائي، والتحول الديمقراطي السلمي، وتكييف المصالح الأميركية في المنطقة مع عصر الشعوب. ولكن يمكن القول إن صانع القرار الأميركي يعيش "صحوة إستراتيجية" في موضوع الأزمة الخليجية، فقد أدرك ضعف الأداء والتخبط في معسكر الثورة المضادة، ومخاطر المراهنة على القادة الفشَلة في ذلك المعسكر، وما يترتب على تلك المراهنة من خسائر إستراتيجية للولايات المتحدة، وتهميش لها لصالح القوى الإقليمية الصاعدة والقوى الدولية المنافسة. وهذه الصحوة الاستراتيجية الأميركية التي رأينا مؤشراتها في الأسابيع الأخيرة هي التي تدفع الأميركيين الآن إلى الإسراع في إيجاد حل للأزمة الخليجية.

إن الإعلان عن سعيٍ أميركي لجمع قادة دول الخليج في شهر مايو المقبل في قمة خاصة بأميركا لإيجاد حل للأزمة الخليجية، يدل على أننا قد نشهد نهاية لهذه الأزمة العبثية مع ختام عامها الأول، وأن القرار الأميركي في هذا السبيل أصبح محسوما، على المستوى النظري على الأقل. أما دول الحصار فليس لديها خيار منطقي سوى القبول بالوساطة الأمريكية، في ظل فشل الحصار، وانعدام الخيارات لديها، وتآكل رأسمالها المعنوي.

ويبقى تحفظان على هذا التحليل الذي ذهبنا إليه هنا، نختم بهما هذا المقال: أولهما أن حالة السيولة الإستراتيجية في الإقليم كله قد تسفر عن مفاجآت ليست في الحسبان في أي لحظة، فيترتب على ذلك تبدلٌ في المشهد الإقليمي كله، ثم يكون لهذا التبدل أثره في مسار الأزمة الخليجية. والثاني أن المزاجية السائدة لدى قادة دول الحصار تجعل الحكم على سلوكهم السياسي حكما منطقيا أمراً لا يخلو من مجازفة. ومع أخْذ هذين التحفظين في الاعتبار، يبدو لنا التفاؤل بحل الأزمة الخليجية في ختام عامها الأول أمراً مشروعا وواقعيا.

  • نقلا عن مدونات الجزيرة

أضف تعليقك