• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

بقلم: أحمد مولانا

"لم يبق من النبوة سوى المبشرات"

 

 حديث نبوي

 

 

 

السجون السياسية من أسوأ الأماكن التي قد يتواجد فيها الإنسان، فمشكلتها ليست في سوء المعاملة وكثرة التضييقات وما شابه فقط، بل تتعدى ذلك إلى جوانب أخرى كالشعور باليأس وانعدام القدرة على الفعل والتأثير في الحياة. لذا ورد الأمر النبوي الشريف "فكوا العاني".

ورغم قساوة السجون إلا أن رحمة الله تتجلى فيها، فينزل سبحانه وتعالى السكينة والطمأنينة في القلوب، بل وكثيرا ما يرى السجناء رؤى تثبت قلوبهم وتفتح لهم أبواب الأمل. وفي هذا المعنى يقول ابن القيم رحمه الله أثناء حديثه عن الرؤى "وهي عند اقتراب الزمان لا تكاد تخطئ.. وذلك لبعد العهد بالنبوة وآثارها، فيتعوض المؤمنون بالرؤيا، وأما في زمن قوة نور النبوة، ففي ظهور نورها وقوته ما يغني عن الرؤيا، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: لم يبق من النبوة إلا المبشرات.  قيل: وما المبشرات يا رسول الله؟ قال: الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو تُرى له".

الاعتقال الأخير

فـعن تجربة شخصية تعرضت خلالها للاعتقال السياسي مرتين بمجموع سجن بلغ 3 سنوات، رأيت رؤى عجيبة تحققت بحذافيرها.

 ففي الاعتقال الأخير وطنت نفسي أني لن أخرج من السجن إلا مع رحيل السيسي طال الزمان أم قصر، ولم تكن هناك أي آفاق أو مؤشرات على احتمال الخروج للحرية خلال فترة قريبة، فبعض الصحف تتحدث عن قرب إحالة القضية المحبوس احتياطيا على ذمتها إلى محكمة الجنايات، كما أن القمع الأمني يزداد، والمؤشرات المادية كلها قاسية وسوداوية.

وبينما هذا هو الحال، إذا بي في يوم أرى أني وزميل معي بقضيتي نحمل حقائبنا متجهين إلى محطة القطار لنذهب منها إلى فندق أقرب ما يكون لما يسمى بـ"نُزل الشباب" في المناطق الساحلية والنائية بمصر، فلم أفهم ماهية هذا الفندق، ولم هذا الزميل تحديدا، فعدد المعتقلين على ذمة القضية ناهز الأربعين شخصا. وقلت لعلي أنتقل مع زميلي هذا إلى سجن آخر.

ثم في صبيحة أحد الأيام فوجئت بأحد الزملاء يقف على باب الزنزانة بسجن طرة مناديا على اسمي والزميل المذكور ورفيق ثالث قائلا "نيابة أمن الدولة أرسلت فاكسا إلى إدارة السجن بإخلاء سبيلكم أنتم الثلاثة". ولم يكن يجمعنا سوى أن أسماءنا في القضية تقع متتالية بين 40 اسما.

الزميل الثالث كان من محافظة تقع ضمن القاهرة الكبرى، فتم نقله لها مباشرة. بينما أنا والزميل الثاني نسكن بمحافظة تقع ضمن دلتا النيل، وبالتالي تم نقلنا من السجن الواقع بالقاهرة إلى سجن الترحيلات سيء الصيت "سجن الخليفة" تمهيد لنقلنا إلى محافظتنا.

مكثنا في الخليفة عدة أيام، ثم كان القرار الغريب بأنه سيتم ترحيلنا إلى سجن المستقبل بمدينة الإسماعيلية البعيدة عن مكان سكننا بذريعة أنه من هناك سننتقل بشكل أسهل إلى وجهتنا! ثم كانت المفاجأة عند الوصول لسجن المستقبل، فهو يشبه تماما نُزل الشباب الذي رأيته في الرؤيا المذكورة، فهو ليس سجنا كالمعتاد، إنما إدارة ترحيلات تم تحويلها لسجن مؤقت. وبذلك اكتمل تفسير تلك الرؤيا غير المفهومة.

الاعتقال الأول

هذا الاعتقال في عهد مبارك تم تحت مظلة قانون الطوارئ بعيدا عن أي ارتباط بالجهات القضائية، وعندما ذهبت إلى سجن "أبو زعبل شديد الحراسة" كان بين الزملاء من قضوا 20 سنة اعتقال بهذا القانون الظالم، لا أزال أذكر أحدهم؛ كان يبلغ من العمر عندما رأيته 39 عاما قضى منها 20 سنة معتقلا دون أي إدانة قضائية. وبالتالي تعايشت مع فكرة الاعتقال المفتوح، فوقتها لم يكن متاحا سوى تقديم تظلم قضائي كل شهرين، وعند الحصول على الإفراج، يتم نقل المعتقل إلى فرع أمن الدولة التابع لمحل سكنه، ليتم تجديد اعتقاله ومن ثم يعود للسجن مجددا.

بعد مرور سنة من الاعتقال، رأيت ذات ليلة أني أعبر من ثغرة في سور محطة قطار لأجد قطارات على وشك المغادرة، وإذا بزميل مسجون معنا اسمه "حازم" يصيح: اركب القطار المتواجد على الرصيف رقم 16، فسارعت لحجز تذكرة وأعطيت موظف التذاكر 50 جنيها، ولكني فوجئت أني أقف أمام شباك مخصص لحجز تذاكر القطار المتواجد على الرصيف رقم 14 في ظل ازدحام شديد، فإذا  بحازم يقطع تذكرتين من الشباك الصحيح ويقول: قلت لك احجز من شباك رقم  16 وليس 14، فهذا هو القطار الذي سيوصلك لمنزلك فقد ركبت فيه من قبل، ووجدت الموظف يرد بقية ثمن التذاكر، ولكنه أعطاني مئات الجنيهات، فقلت له: متبقي لي 40 جنيها فقط، فصرخ في: "هل تظن أنك ستعلمني شغلي؟"، فأخذت الأموال كلها وقلت في نفسي: أنت الخاسر أيها الموظف الأحمق. ولم أدر لم حجز الزميل تذكرتين للقطار فهو لن يركب معي.

هذه الرؤيا بتفاصيلها العجيبة شغلتني كثيرا، وكنت على أمل أن رقم 16 هو عدد الشهور التي سأقضيها لا عدد السنوات. كما أن "حازم" سبق اعتقاله ثم خرج بضع سنوات ليعاد اعتقاله مجددا، فسألته كيف خرجت في المرة السابقة، قال خرجت "إفراج وزير"، وهو مصطلح يعني أن اسمه ورد ضمن قوائم الإفراج التي يوقعها وزير الداخلية في المناسبات والأعياد.

في نهاية مارس 2010، بعد مضي 16 شهرا من الاعتقال، فوجئت بمأمور السجن يأتي إلى العنبر وينادي على اسمي، فذهبت له متسائلا: خيرا؟ فقال لي: اسمك ورد ضمن قوائم إفراج الوزير ومعك 4 آخرون، وكانت المفاجأة السعيدة أن بينهم صديق معتقل معي من مدينتي، وبهذا فهمت سبب قطع التذكرتين في الرؤيا آنفة الذكر.

في اليوم التالي، تم ترحيلي إلى فرع أمن الدولة بالمحافظة التي كنت أقيم بها آنذاك، وهناك قال لي أحد الضباط: القرار بخروجك تم أخذه منذ شهرين، ولكنك لم تحصل على الإفراج القضائي المعتاد، لذا تم وضع اسمك مع زميلك فلان ضمن قوائم إفراج الوزير، وبذلك فهمت سر وقوفي في الرؤيا أمام الشباك رقم 14 بينما رقم 16 هو الذي غادرت فيه. أما الأموال الكثيرة فأولتها أني خرجت بمكتسبات كثيرة خلال الاعتقال من صداقات وقراءات وخبرات تفوق الثمن الذي دفعته.

نوافذ الأمل

هذه الرؤى أكدت لي معنى هاما؛ ألا وهو أهمية عدم الاكتفاء في تقييم الواقع بالمعايير المادية الصرفة فقط، بل لا بد من اعتبار القدر الرباني وسنن الله في البشر. وما زلت أذكر أنه عقب الإفراج عني ناقشت قياديا إسلاميا بارزا قائلا "لا أرى أفقا واضحة ومسارات يمكن من خلال السير عليها إحداث تغيير بالمشهد"، فكانت إجابته: إنه في حال انسداد مسارات التغيير فسيأتي في شكل قدري، وربما تأتي شرارته في شكل حادث بسيط، والمهم هو الاستعداد لاستثماره حين وقوعه لا اليأس من حدوثه. فما مرت بضعة شهور حتى وقعت حادثة بوعزيزي في تونس، ثم تفجرت الأحداث في ربوع المنطقة ليسقط أبرز طغاة العرب في مصر وليبيا واليمن، ولم تنته تداعيات ذلك حتى اليوم.

أضف تعليقك