بعد ساعات فقط من إعلان الرئيس التركي عن البدء الفعلي لعملية عفرين، وتحديداً في الساعة الخامسة من مساء العشرين من الشهر الجاري، أطلقت تركيا عبر طائراتها المقاتلة عملية "غصن الزيتون" في منطقة عفرين، شمال غربي سوريا، في مواجهة وحدات حماية الشعب الكردية، الامتداد العسكري السوري لحزب العمال الكردستاني. في اليوم التالي، أعلن رئيس الوزراء التركي عن بدء التحرك البري من العملية؛ التي يفترض أن تتكون من أربع مراحل، وتهدف إلى "تنظيف" منطقة عفرين من وحدات الحماية وإنشاء منطقة آمنة بعمق 30 كلم.
ثمة الكثير مما يمكن قوله عن العملية في بُعدها العسكري، الأهم والأصح من بينها أنها ما زالت في بداياتها الأولى، وبالتالي من الصعب الجزم بمداها العملياتي (محدودة أم موسعة) والزمني (أيام أم أسابيع أم أشهر)، ومدى قدرتها على تحقيق الأهداف التي وضعت لها، فضلاً عن العمليات اللاحقة التي أشار لها اردوغان بخصوص منبج وشرق الفرات الذي تسيطر عليه الوحدات (تحت اسم قوات سوريا الديمقراطية) بحماية أمريكية عسكرية مباشرة.
بيد أن البعد السياسي للعملية لا يقل أهمية عن العسكري - الميداني، أولاً باعتبارها عملية عسكرية خارج الحدود، أي على أراضي دولة أخرى، وثانياً بسبب تحفظ و/أو اعتراض أطراف مهمة في المعادلة السورية عليها، مثل الولايات المتحدة وفرنسا وإيران، فضلاً عن النظام، وثالثاً بسبب تعقد شبكة المصالح والتحالفات في القضية السورية وسرعة تبدلها.
ولهذا تحديداً، يبدو لي أن القيادة التركية عملت بالتوازي مع التحرك العسكري لإنشاء ما يمكنني تسميته بشبكة أمان سياسية - دبلوماسية لتحركها، تعتمد على أربع ركائز رئيسة هي:
الأولى، مشروعية التحرك، حيث اعتمدت السردية التركية على حق الدول المشروع في الدفاع عن نفسها، وعلى مواجهة المنظمات الإرهابية، وليس المواطنين السوريين أو المكوّن الكردي، بما فيه ذلك ذكر "داعش" إلى جانب وحدات الحماية وحزب العمال، وإطلاق اسم "غصن الزيتون" على العملية باعتبارها عملية سلام تسعى لـ"تحرير" سكان المنطقة من منظمة إرهابية، ومشاركة فصائل من الجيش السوري الحر كقوة محلية، وبالتالي نفي صفة التدخل الخارجي أو الاحتلال.
الثانية، تمتين الجبهة الداخلية، من خلال التواصل مع أحزاب المعارضة الرئيسة، وإطلاعها على المستجدات ووضعها في الصورة، وتأمين دعمها وتأييدها للعملية. وقد حصل ذلك مع حزبي الشعب الجمهوري (أكبر أحزاب المعارضة) والحركة القومية، وإن يشذ عنه حزب الشعوب الديمقراطي (القومي الكردي) كما كان متوقعاً. ويضاف إلى ذلك، الحرص على تأييد أوسع طيف من الشعب للعملية. وقد شهدت المساجد التركية إقبالاً ملحوظاً على صلوات الفجر والعشاء، حيث تُقرأ سورة الفتح ويُدعى للجيشين التركي والسوري الحر بالنصر والسلامة.
الثالثة، التفاهم مع روسيا.. فلا يمكن تصور قيام تركيا بعملية بهذه الحساسية والخطورة والأهمية دون التوافق مع روسيا، ليس لأنها القوة المسيطرة على الأجواء، والتي نسجت تفاهمات مع أنقرة ما زالت الأخيرة حريصة عليها، ومن تملك قرار النظام فقط، ولكن أيضاً لتواجدها العسكري ميدانياً في عفرين، وضرورة كسب موقفها لموازنة الموقف الأمريكي.
صحيح أنه لم يصدر - حتى كتابة هذه السطور - أي موقف رسمي معلن من روسيا؛ يؤيد العملية (ولا يدينها) بشكل واضح، ولكن بعض القرائن تشير بوضوح إلى إقرارها للعملية في مرحلتها الحالية على أقل تقدير، وأهمها سحب جنودها من عفرين، وعدم اعتراض المقاتلات التركية، وتحميل لافروف مسؤولية التصعيد الأخير لواشنطن وليس لأنقرة.
الرابعة، التواصل مع مختلف الأطراف.. قالت أنقرة إنها أبلغت النظام السوري بالعملية كتابياً وبشكل غير مباشر عن طريق الروس (النظام نفى ذلك). وذكر قائد القيادة المركزية الأمريكية جوزيف فوتيل؛ إنها أبلغتهم بالعملية قبل إطلاقها. وزار رئيسا أركان الجيش وجهاز الاستخبارات التركيين موسكو قبل العملية بساعات. أكثر من ذلك، فقد استدعت الخارجية التركية ممثلي دول جوار سوريا والاتحاد الأوروبي والدول دائمة العضوية في مجلس الأمن؛ لإطلاعهم على العملية وشرح موقف تركيا.
شبكة الأمان السياسية والدبلوماسية هذه بركائزها الأربع؛ أمّنت لتركيا بداية للعملية بالحد الأدنى من المضايقات، لكن ذلك لا يعني أن الأمور ستسير بالضرورة بنفس السلاسة مستقبلاً. فما زالت العملية في بداياتها، ومواقف مختلف الأطراف مفتوحة على احتمالية التغير والتبدل وفق المتغيرات. ولعل الأهم بالنسبة لتركيا هو استمرار الموقف الروسي المتفهم لضرورات الأمن القومي التركي التي أطلقت العملية، وألا يتغير مستقبلاً للضغط عليها لإنهاء العملية أو خفض سقفها، لا سيما وأنه - كما سبق - لم يصدر حتى الآن عن موسكو موقف صريح داعم العملية.
وبدرجة أقل، يبدو التحرك الفرنسي في مجلس الأمن مقلقاً بالنسبة لأنقرة وقد يفتح عليها باباً جديداً من الضغوط الدولية، رغم أنه من الصعب توقع صدور قرار مرتفع السقف وملزم بشأن عفرين، في ظل التفهمات الروسية ،- التركية، وهو ما يحيل مجدداً إلى محورية الموقف الروسي بالنسبة لتركيا، وأهمية ثباته إلى جانبها.
أما الجانب العسكري من العملية، والتحديات التي تواجهها ومراحلها المختلفة، والسيناريوهات المحتملة لها بين عملية موسعة وأخرى محدودة، وسيناريو تسليم الوحدات عفرين للنظام (ما زال محتملاً كسيناريو جزئي تحت عنوان العملية المحدودة)، فلا تكفيه مساحة هذا المقال، ولنا فيه حديث آخر إن شاء الله.
أضف تعليقك