"العامة"، اختصار اسم جهاز المخابرات العامة في مصر، وقد ورد الاسم على هذا النحو أكثر من مرة، على لسان ضابط المخابرات الحربية "أشرف الخولي"، في التسريبات الأخيرة، وهو يملي على عدد من الإعلاميين والفنانات "التوجيه اليومي". ويبدو أنه اختصار متداول في أوساط أهل الحكم، للتمييز بين هذا الجهاز، وجهاز المخابرات الحربية!
وأمس الخميس، أصدر عبد الفتاح السيسي، قراره المثير بتعيين سكرتيره الخاص اللواء عباس كامل مديراً لـ "العامة"، لتسيير الأعمال، مع الاحتفاظ بوظيفته الرسمية، التي جعلت منه أقوى شخصية في مصر، على نحو صار من حق البشرية أن تسأل عن الوضع الدستوري للسيد عباس كامل، الذي يشارك عبد الفتاح السيسي في الحكم، وربما هو الحاكم الفعلي للبلاد؟!
هذا القرار الذي أصدره السيسي، يأتي ضمن قرارته لتدمير هذا الجهاز الوطني، وهو منذ القضية الشهيرة إعلامياً بـ"فساد جهاز المخابرات"، عقب هزيمة سنة 1967، وهو مشغول ببناء سمعته، حتى تمكن من طي هذه الصفحة. وللجدية في رد الاعتبار، فقد صار فوق الخلاف السياسي، وفوق الحزبية، ونجح في أن يكون جهازاً من أجهزة الدولة، له عقيدته الوطنية، وتوجهه القومي، وليس أداة من أدوات السلطة، وكرباجاً في يدها!
ومنذ هذه القضية، فقد حرص رؤساء مصر، على أن يراعوا احتفاظ هذا الجهاز بهويته الوطنية، فحرصوا على عدم الزج به في الخصومات السياسية ليكون جزءا من أدواتهم في الصراع السياسي، إلى أن جاء السيسي ليعمل على تخريبه، وفي ظرف أربع سنوات قام بعزل 73 من قياداته!
في قضية فساد المخابرات اختلط العام بالخاص، إذ استخدم أداء قسم السيطرة في التشهير بالجهاز؛ في المحاكمات القضائية التي نصبت لقياداته، وهو القسم الذي كانت تقوم مهامه على السيطرة على عدد من الفنانات لتوظيفهن في السيطرة على القادة العرب. ومما قيل في هذا الصدد أن عبد الناصر نفسه كان يعلم بذلك، لكنه استغل ذلك في الانتقام من مدير الجهاز "صلاح نصر"، لسبب آخر، هو أن المذكور كان متحالفاً مع وزير الحربية "عبد الحكيم عامر"، في التخطيط لانقلاب عسكري على عبد الناصر؛ الذي استغل هزيمة يونيو 1967 في التخلص منهما، فقتل "عامر" بالسم، وحاكم "نصر" بتهمة فساد جهازه!
ومنذ هذا التاريخ، أعيد بناء جهاز المخابرات على أسس مغايرة لما كان عليه الحال من قبل، وصار جل نشاطه في الخارج، وإن أوكلت إليه بعض الملفات الداخلية. فقد عمل كجهاز جامع للمعلومات، ليس طرفاً في الخصومات السياسية، وليس جزءاً من معارك النظام، حيث كانت وزارة الداخلية هي المختصة بها!
والجهاز ليس تابعاً للجيش، فهو يتبع رئاسة الجمهورية، وكان يربط مديره اللواء عمر سليمان بوزير الدفاع المشير محمد حسين طنطاوي، ود مفقود. ومن الطبيعي ألا يشعر طنطاوي بالود تجاه سلمان، ونقل هذه المشاعر إلى تلميذه عبد الفتاح السيسي، والذي كان صاحب مصلحة في استمرار المشاعر السلبية بعد الثورة؛ لأنه تخطى الرقاب بصفته مديراً للمخابرات الحربية، للقيام بدور جهاز مباحث أمن الدولة، الذي يحكم على الأرض، وبسقوط الداخلية في الثورة، فقد حدث نزاع سريع على من يخلفه؟، حسمه "السيسي" عن طريق مرشد الروحي وزير الدفاع!
ولم يُذكر أن طنطاوي تدخل بالعزل والتعيين داخل جهاز المخابرات، خلال الفترة التي تولى فيها حكم البلاد بعد تنحية مبارك، لكن بقدوم السيسي بعد الانقلاب العسكري، فقد استباح هذا الجهاز، على نحو بات يمثل بسوء استخدام السلطة يمثل خطراً على الأمن القومي المصري، وتجاوز فكرة تهميشه إلى تدميره، لصالح المخابرات الحربية التي لا يشعر بالأمان إلا في وجودها، رغم قلة الخبرة، التي وقف عليها العالم من خلال تسريبات "نيورك تايمز"، ومن خلال مكالمة الضابط "أشرف الخولي" لمجموعة الإعلاميين والفنانات، وهو أداء بائس استخدم لنفي صحتها. وهو تدمير يأتي أيضاً لأسباب أخرى لا تعلمونها الله يعلمها.
وإذا كنا فهمنا رسالة التخريب المتمثلة في عزل هذا العدد من قيادات "العامة"، فإن عزل اللواء مدير جهاز المخابرات العامة بهذا الشكل؛ يؤكد على صحة ما نشر من وجود صراع داخل السلطة وأجهزتها الأمنية، وأن الحاكم بأمره رأى أن هناك خطرا يتعذر تداركه، فلم يترك اللواء خالد فوزي في موقعه لحين البحث عن مدير جديد، لا يجري اختياره على عجل! هذا فضلاً عن أن هذا الاختيار شديد البؤس، يؤكد أن السيسي فاقد للثقة في كل من حوله. فهل يعقل أنه لم يجد داخل الجهاز من يصلح لرئاسته، وقد عين بنفسه بعض الأشخاص فيه، وبعضهم قدم من المخابرات الحربية، فلا يجد أمامه سوى سكرتيره ليأتمنه على هذا المنصب الرفيع؟!
هل هي التسريبات التي أطاحت باللواء خالد فوزي؟.. أم أن الأمر مرده إلى عدم حماس أطراف في السلطة، ومن بينها جهاز المخابرات العامة، لإعادة ترشيح السيسي، وربما وصل الأمر إلى درجة الوقوف مع بدائل له؟!
عندما أصدر عدد من الضباط الأحرار مذكراتهم بعد وفاة جمال عبد الناصر، اكتشفنا أن السوس كان ينخر في عظام هذا الحكم، الذي كان يبدو خارجياً قوياً ومتماسكاً، وكانت الخلافات والدسائس على أشدها بين أركانه، لدرجة أن عبد الناصر بدا متحمساً لحرب لم يستعد لها، ليشغل الجيش بها؛ لأن انقلاباً على ناصر كان يدبر بداخله يقوده "عبد الحكيم عامر"، و"صلاح نصر"، فكانت مصائب قوم عند قوم فوائد؟!
وكل الدلائل، تؤكد أن الأمور ليست على ما يرام داخل معسكر الانقلاب، وأن السيسي لم يعد يجد من يثق فيه، فإذا كان قد مكن صهره من قيادة الجيش، فبعد فترة من تعيينه قام بعزله، ولم يعد له داخل معسكره سوى عباس كامل، سكرتيره، ومدير المخابرات العامة، لكنه في النهاية فرد لا يمكنه أن يشغل جميع المواقع الحساسة!
إن الدائرة تضييق على عبد الفتاح السيسي، وغداً قد يتشكك في عباس كامل نفسه!
أضف تعليقك