• الصلاة القادمة

    العصر 13:46

 
news Image
منذ ثانية واحدة

الوطن .. كم هي كلمة مبهجة تُشرق على النفس بالدفء كشمس شتاء حانية.

كلمة إذا ماذُكِرت تراءت أمام أعيننا ملاعب الطفولة وذكرياتها وأحلام الصٍبا واندفاع الشباب وآماله، ولمًة الأهل ووُدّ الأحبّة ..
ومن منّا لايحب وطنه ويحن إليه دوما - وإن كان فوق تُرِِبه الغالي-.. يحن لموضَع أمن فيه، يحن لوقفة حرّية تصدح في أرجائه ولمنبع كرامة وعز تنبع من جداوله الغضّة الرقراقة ..
وإن كان الوطن عندي لايعني مجرد إرتباط مادي وشعوري بأرض وُلد الإنسان وتربى وعاش عليها .. ولكن يتسع المعنى ليكون أرحب من ذلك وأكبر ، فيرتبط بالأشخاص والأحلام ، بل بالمبادئ والقيم والمعتقدات كما يرتبط بالمكان والأهل.

فالوطن هو كل مايُشعر الإنسان بالأمن والسكن، فهو إذا ليس مجرد مكان استوطنه الإنسان وعاش فيه، لأن الإنسان يمكن أن يشعر بالشعور ذاته تجاه مكان أو بلد آخر دون أن يحيا على أرضه أو حتى يراها .. فمكة والمدينة المنورة والقدس مثلا، هم ثلاثتهم وطن لكل مسلم يحن إليهم ويشتاق لأن تطأ أقدامه عليهم، ولا يمكن أن يشعر فيهم بالغربة أو الوحَشة رغم أنه لم يُولد على أرض أي منهم، وقد لا تلامس قدماه ثراهم ماحييّ، ولكنهم الوطن الروحي والعقائدي لكل مؤمن ..
لأن الأفئدة تتطلع إليهم وتذرف العيون الدمع شوقا لهم ..

ولذا فإنني ضد تقييد فكرة الوطن على هذا النحو الضيق، فكما أن البلد وطن،  فالبيت الذي يعيش فيه الإنسان وطن صغير خاص به يشعر فيه بالأمن والسكن ..
والمسجد وطن للمؤمن يُقيم فيه عبادته، بل إن العبادة ذاتها وطن للنفس تهرع إليها لتتطهر وتُلقي عن كاهلها أوزارها وخطاياها فتصفو وتستنير بنور الإله ..

وكذلك القلب وطن للنفس يحمل عقيدتها ومبادئها وقيمها ومشاعرها يمكن أن تسكن إليه وتتآلف معه فتكون نفس مطمئنة، ويمكن أن تغترب عنه وتختلف فتكون قلقة مُرتابة لوّامة، وماأكثر خلق الله المغتربين عن قلوبهم الآن ببعدهم عن طريق الحق ..

وكذلك أيضا الفكرة الصادقة والعقيدة الحقة الراقية التي تُؤمن بها وتجاهد من أجلها في عز الإبتلاء والإنكسار، وتتحمل في سبيل إعلائها والصدح بها عذابات فتح زنزانة عفِنة قاسية ! لـ هي "وطن" مُفعم بالطمأنينة والثبات والقوة برغم سفح الأنفس وإراقة الدماء ..

وإن من تمام سعادة النفس أن تجد في وطنها موضع الأمن الغالب المطمئن والحرية الأخاذة الصادحة والكرامة الواجبة بعزة ورقي، وأن تجد فيه من هو موضع السر والعلن على مشاق الحياة ونوازلها ..
وكم نفتقد هذا البلد "الوطن" الآن !

كما أن فقدان الإنسان لقلب يشاركه الآلام والآمال وعقل يتفق مع أفكاره وقيمه وفكره هو أهم أسباب الشعور بالغربة والعُزلة حتى بين ذوي القرابة وعلى أرض  الوطن وهي أقسى أنواع الغربة .. ولقد كان رسول الله "صَلّىٰ اَللًه عُليْهٌ وَسلّمْ" 
"وطنا" لجميع أصحابه - إن جاز لي هذا التعبير- فقد كان الملاذ الذي يأوون إليه إذا داهمتهم الكروب ونزلت بهم النوازل، أو عرضت لهم العوارض، فيجدون عنده 
مايشفي الصدور ويريح الضمائر ويثلج القلوب، .. لذا فإن من عظيم مكانتهم التي لايمكن أن يباريهم فيها أحد تحملهم لمصيبة فقده "عَليِه اَلصَلاةُ وَالَسلَام".. 
وإن كان موته إبتلاء لكل مؤمن آمن به وبما جاء به من الحق ..

ولكن الأمر أكبر لمن عايشه " عَليْه الَصِلاة واَلسَلاَم"، وتطهرت عيناه برؤيته وتزينت أذناه بسماع حديثه، فكان له الأب والمُعلًم والعقل الراجح واللسان الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، وقبل كل ذلك قلب النبي الذي هو رحمة للعالمين ثم بعد كل ذلك خرج يوما فواراه الثرى ورجع من دونه ، فأي بلاء يفوق هذا .. !

ونحن الآن وقد أحاطت بنا الدنيا ببلائها وهمومها وعصفت بنا رياح الضيق والهم
والكروبات .. فكم منا من تمنى أن يكون بين يدي الرسول يبث همومه وتقصيره إبتلائه، لعله يفوز بدعوة منه الشفيع النقي، ولكن إن كان محمد "صَلّىٰ اَللًهٌ عَلِيهَ وَسلّمْ" قد مات فإن رب محمد حي لايموت وهو أقرب إلى عباده من حبل الوريد،
وباب مناجاته موطن لكل راحل إليه لاتغلق أبوابه دون طارق ..

وإنها كلمة أهديها في النهاية إلى كل من ضاقت عليهم أوطانهم إما مطاردة في أراضيه أو هجرة خارجه، ومنعا قاسيا عن عودته وقيدا ظالما قهرا في أقبية سجونه .. وقد فقدوا كل معنى للوطن والسكن والأمن ..

بُشـراهم أن هناك وطنا أخيرا هو الوطن الدائم .. الحق مهما ضاقت عليك الأرض بما رحبت وضاقت بك صدور الناس وأغلقوا دونك قلوبهم وإن كانوا من الأحبة الأقربين .. فتذكر أن هناك وطنا ينتظرك وأحبة لن يُنكروك أو يمّلوك فاتحين أفئدتهم لك أبدا ..فإن هي إلا سويعات ويضع المؤمن رحله بالجنة ويضع عن كاهله الأحزان والهموم والكروبات أبدا ..
فلنشد الرحال إلى هذا الوطن الخالد الذي لا يشوبه منغص، فلنتزود للطريق 
بالثبات الثبات ..

 

 

أضف تعليقك