هل كان بوسع ثيودور هرتزل عندما وضع كتابه الشهير "دولة اليهود" في سنة 1896 أن يتصوّر أنّ دولته الموعودة ستباشر إبعاد بعض اليهود عنها، أو منعهم من الدخول إلى مناطق تحت سيطرتها، وفرض قيود على منظماتهم؟ ما الذي يمكن قوله لأبي الصهيونية السياسية اليوم عن الحال التي انتهت إليها التجربة الصهيونية الواقعية، كما تمارسها حكومة الاحتلال الإسرائيلي وسلطاتها بالفعل منذ سنوات، وفق ما أصبح تقليداً متكرساً؟
اختطفت هذه الحالة الانتباه بصفة خاصة عندما تم إيقاف المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي، المولود لأبوين يهوديين، عند نهر الأردن في أيار/ مايو 2010 واضطر إلى العودة إلى الولايات المتحدة؛ لأنّ السلطات الإسرائيلية لم تسمح له بالدخول وإلقاء محاضرة في جامعة بيرزيت في الضفة الغربية المحتلة. ربما فاجأ ذلك بعضهم وقتها، لكنّ تشومسكي لم يكن اليهودي الوحيد الذي يتم إبعاده أو منعه من دخول مناطق تحت السيطرة الإسرائيلية، فهو ما جرى ويجري مع أعداد متزايدة من ناشطي يهود العالم بأمر سلطات ترى نفسها "دولة اليهود"، حسب وعد هرتزل، والمؤشرات متصاعدة.
ما الذي يمكن قوله لأبي الصهيونية السياسية اليوم عن الحال التي انتهت إليها التجربة الصهيونية الواقعية، كما تمارسها حكومة الاحتلال الإسرائيلي وسلطاتها بالفعل منذ سنوات، وفق ما أصبح تقليداً متكرساً؟
تطوّر الموقف إلى حملات تشهير حول العالم تخوضها الدعاية الإسرائيلية ضد منظمات مجتمع مدني أسسها يهود وتعمل باسمهم، وبعضهم إسرائيليون أساساً، كما يجري مع منظمات من قبيل "كسر الصمت" التي يفصح من خلالها جنود إسرائيليون عن ممارسات التنكيل والقهر التي يقوم بها جيش الاحتلال بحق المواطنين الفلسطينيين. وكلما حاولت هذه المنظمة إقامة محاضرات عامة أو معارض صور في بلد أوروبي ما، فإنّ ناشطي "دولة اليهود" يطاردونها ويحاولون التضييق عليها، كما جرى مثلاً في سويسرا في حزيران/ يونيو 2015. وقد بلغ الأمر حد أن يرفض بنيامين نتنياهو في ربيع 2017 استقبال وزير الخارجية الألماني سيغمار غابرييل لمجرد أنه التقى ناشطين إسرائيليين يهود من هذه المنظمة وغيرها من المنظمات الحقوقية الإسرائيلية مثل "بتسيلم".
واضح أنّ الحكومات الإسرائيلية المتشنجة في عهد نتنياهو عازمة على إظهار مزيد من الصرامة؛ في مواجهة المثقفين والناشطين اليهود الذين لا يتناغمون مع دعايتها الرسمية. فمزيد من الشخصيات العامة اليهودية في أوروبا تواجه حملات قاسية من أوساط إسرائيلية رسمية وشبه رسمية، لمجرد اتخاذ هذه الشخصيات الناقدة مواقف أخلاقية ضد الاحتلال العسكري الإسرائيلي. يبدو مذهلاً سماع اتهامات متشنجة مثل "تشجيع العداء للسامية" بحق بعض هذه الشخصيات، أو أن يشمل الهجوم شخصيات يهودية عريقة مثل السير جيرالد كوفمان الذي مكث في مجلس العموم البريطاني 47 عاماً، والذي نشأ صهيونياً ثم وقف مناصراً لحقوق الشعب الفلسطيني حتى يومه الأخير في 26 شباط/ فبراير 2017.
الحقيقة الماثلة للعيان أنّ تحوّلات نسبية طرأت في العديد من الدول الغربية على اتجاهات النخب اليهودية التي أخذت تبوح بانتقادات متزايدة لاحتلال فلسطين وللنظام الإسرائيلي ككل. وتتعاظم في غضون ذلك ظاهرة "الإسرائيليين السابقين" الذين يرحلون إلى أوروبا والولايات المتحدة بلا رجعة، ويعلن بعضهم معارضة جذرية للصهيونية ودولتها. كما تطلب أعداد غفيرة من الشباب الإسرائيلي العيش بعيداً عن الدولة الصهيونية ووعودها، في أوروبا والأمريكيتين، وحتى في الهند، حيث تستقطب منطقة غوا آلاف الشباب الإسرائيلي في إقامات مؤقتة أو دائمة. ومن المفارقات أن تكون برلين تحديداً وجهة مفضلة لاستقرار عشرات الألوف من الشباب الذين لم يجدوا فرصتهم في "تل أبيب" والمدن الكبرى تحديداً.
وبينما تكيل الدعاية الإسرائيلية اتهامات "العداء للسامية" لحركات المقاطعة ونزع الاستثمارات وفرض العقوبات "منع"، فإنّ الحقيقة التي لا تتطرّق إليها هذه الدعاية هي أنّ نسبة ملحوظة من رواد هذه الحركات وناشطيها هم من اليهود الذين اكتشفوا حقيقة الاحتلال وبينما تكيل الدعاية الإسرائيلية اتهامات "العداء للسامية" لحركات المقاطعة ونزع الاستثمارات وفرض العقوبات "منع"، فإنّ الحقيقة التي لا تتطرّق إليها هذه الدعاية هي أنّ نسبة ملحوظة من رواد هذه الحركات وناشطيها هم من اليهود الذين اكتشفوا حقيقة الاحتلال. ولم يكن مفاجئاً مثلاً أن يأتي قرار المغنية النيوزيلندية "لورد" بإلغاء حفلها الذي كان مقرراً إقامته في "تل أبيب" في حزيران/ يونيو 2018، بعد رسالة مفتوحة مشتركة موجهة إليها نشرتها كل من الكاتبة النيوزلندية اليهودية جاستين زاكس والفلسطينية نادية أبو شنب، وبالطبع لم تتردد بعض الأصوات التي انطلقت في الحملة المتشنجة ضد المغنية ابنة 21 سنة، في وصف خطوتها بالعداء للسامية، بينما نشر أحدهم إعلاناً ضدها على صفحة كاملة في "واشنطن بوست" وصفها فيه بالمتعصبة.
ومن تطورات الحالة أنّ السنوات الأولى من هذا القرن شهدت نشوء تشكيلات يهودية جديدة عبر أوروبا مناهضة للاحتلال. لم يقع ذلك تحت تأثير الدعاية الفلسطينية أساساً، بل تحت وطأة الواقع الإسرائيلي وممارسات جيش الاحتلال. وجد يهود أوروبيون وإسرائيليون سابقون حاجتهم للتكتل ورفع صوتهم ضد ما يجري باسمهم في فلسطين، فتشكّلت منظمات مثل "الصوت اليهودي" في بلدان أوروبية والولايات المتحدة، وانضوى فيها شبان خدموا في الجيش الإسرائيلي ثم قرروا الحديث عما كانوا يقترفونه بحق المواطنين الفلسطينيين، وأصبحوا ضمن أبرز المتحدثين في المجتمعات الأوروبية والأمريكية ضد الاحتلال.
ثمة تقديرات بأنّ أعداد اليهود الذين أخذوا يتظاهرون في العواصم والمدن الأوروبية تحت الأعلام الفلسطينية؛ يفوق أحياناً أعداد المتظاهرين تحت الأعلام الإسرائيلية، كما حدث في صيف 2014 مثلاً، عندما كان الجيش الإسرائيلي يقصف غزة على مدار شهرين. والأهم من ذلك أنّ النخب اليهودية المعروفة في أنحاء أوروبا باتت تتغيب عن مظاهرات "التضامن مع إسرائيل" التي تواجه صعوبات واضحة في حشد عدد كافٍ من المتظاهرين الذين يجري الاستعاضة عنهم بالإكثار من رفع الأعلام الكبرى.
ومع تطور التشبيك الالكتروني، يتعاظم الوعي بحضور المنظمات اليهودية المناهضة للنظام الإسرائيلي، حتى باتت تشكِّل مجتمعاً مدنياً عالمياً يتبادل التجارب والخبرات في مناهضة الاحتلال، وفي التعامل مع حملات التشويه المتزايدة من أوساط الدعاية الإسرائيلية علاوة على القيود التي تفرضها السلطات الإسرائيلية عليها.
ومع تطور التشبيك الالكتروني، يتعاظم الوعي بحضور المنظمات اليهودية المناهضة للنظام الإسرائيلي، حتى باتت تشكِّل مجتمعاً مدنياً عالمياً يتبادل التجارب والخبرات في مناهضة الاحتلال، وفي التعامل مع حملات التشويه المتزايدة من أوساط الدعاية الإسرائيلية ولم يكن مفاجئاً بالتالي أن تفتتح السلطات الإسرائيلية السنة الجديدة 2018 بالكشف عن قائمة من عشرات المنظمات حول العالم، ومن بينها منظمات يهودية مثل "الصوت اليهودي" ذاتها. فنظام الاحتلال والأبارتهيد حريص على احتكار الوصف اليهودي أساساً، وتُزعجه المعارضة الأخلاقية الجريئة والمتعاظمة من أوساط اليهود حول العالم علمانيين ومتدينين. ومن هؤلاء المتدينين جموع غفيرة في الأوساط الحسيدية، مثل تجمعات اليهود الستمار في نيويورك، وطائفة ناطوري كارتا - مثلاً - المعروفة بموقفها المبدئي المضاد للصهيونية والنظام الإسرائيلي. أما قاطنو حي مياشعاريم في غربي القدس، الشهير بحياته الدينية اليهودية الصارمة، فعبّروا عن إحباطهم من إعلان ترمب القدس "عاصمة لإسرائيل"، وتحدث بعضهم في تقارير إعلامية عن التفكير بمغادرة البلاد إلى الأبد. من الصعب أن يصادف المرء أعلاماً إسرائيلية مرفوعة في هذا الحي تحديداً، لكنهم يرفعون أحياناً العلم الفلسطيني على الجدران، والرسالة واضحة.
ومع انكشاف الواقع في زمن الصورة والمشهد والتشبيك؛ تتعرف الأجيال اليهودية الجديدة في أوروبا والغرب أكثر فأكثر على ما يقترفه نظام الاحتلال في فلسطين، ومن الصعب على أي دعاية كانت مهما كانت بقوة الدعاية الإسرائيلية أن تواصل تبرير ما يجري دون أن تثير الشكوك بشأن مصداقيتها. والعبء الثقيل الذي يستشعره مزيد من اليهود حول العالم؛ أنّ كل هذه الجدران الرمادية، وحواجز الإذلال، وعمليات القصف والقتل، ومصادرة الأراضي وهدم البيوت؛ تتم باسمهم عملياً تحت شعارات مثل "دولة اليهود".
أضف تعليقك