• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

في ظل المعركة الكبرى التي أشعل أوراها وأوقد نارها الرئيس الأمريكي ترامب، بإعلانه القدس عاصمةً أبديةً للكيان الصهيوني، فأغضب بقراره المشؤوم العرب والمسلمين، وكان سبباً في ثورة الفلسطينيين وانتفاضتهم احتجاجاً على قراره وغيرةً على مدينتهم، نعيش هذه الأيام ذكرى معركة حطين المجيدة، التي وضعت حداً قاطعاً لاحتلال القدس وضياعها، وأنهت غربتها عن محيطها، وهي المعركة الفصل التي كان لها فضل إنقاذ مدينة القدس والمسجد الأقصى المبارك من براثن الغزاة الصليبيين، الذين استولوا عليها وعاشوا فيها قرابة قرنٍ من الزمان، عاثوا فيها فساداً وتخريباً، وقتلوا فيها آلاف المسلمين ذبحاً، واستباحوا حرمات المسلمين في مدينتهم, ومسجدهم الذي قتلوا عشرات آلاف المسلمين على بلاطه، وغيروا معالم مسجدهم، ورفعوا الصليب فوق قبابه ومآذنه.


 
ما أشد حاجة الفلسطينيين اليوم ومعهم العرب والمسلمين إلى صلاح الدين جديدٍ، يثور من أجلهم، وينتفض غيرةً عليهم، ويسير الجيوش لإنقاذهم وتحرير بلادهم، وينتقي خيرة الجند لمعركة الفصل والفرقان، يدربهم ويؤهلهم، ويعدهم ويجهزهم ليومٍ عظيم يترقبه، ومعركةٍ كبيرةٍ لا بد منها، لا يشغله عن هذه المهمة شيئٌ، ولا يعطله عنها أمرٌ آخرٌ مهما بلغ.


 
اعتقد صلاح الدين أن تحرير القدس واجبٌ، واستعادة المسجد الأقصى من الغاصبين استعادةً للشرف والكرامة، وتحقيقاً للعزة وحفظاً للدين والهوية والحضارة. أبكت القدس عيونه وأدمت قلبه، وحرمت عليه الابتسامة والضحك، ومنعته من الهزل والمرح، إلا أن تعود درة مدن بلاد العالم الإسلامي إلى كنف المسلمين حرةً أبيةً، وتتطهر من الرجس الذي سكنها، وتتحرر من الظلم الذي سادها، فهي المدينة التي يجب أن يسكنها السلام فهي أرض السلام.


 
لكن صلاح الدين الأيوبي بطل حطين ومحرر القدس، ما كان له أن يحقق غايته وتكتحل عيونه بربى القدس، ويسجد بجبهته في المسجد الأقصى، ويبنى له منبراً ما زال إلى اليوم قائماً ويحمل اسمه، وإن امتدت إليه يد الخراب فأحرقته، وأصابه بلى المستوطنين فخربوه، إلا أن يوحد الأمة الإسلامية، ويجمع على الحق كلمتها، ويزيل الخلافات التي كانت سائدة بينها، فقد عرف أن قوة العرب والمسلمين لا تتحقق إلا إذا التقت مصر والشام، واتحدت القاهرة ودمشق، وهذا الذي كان فعلاً، وبه تحقق النصر وانتصر المسلمون، ودخلوا القدس والمسجد الأقصى فاتحين مهللين مكبرين.


 
اليوم تواجه القدس, ومعها كل فلسطين ذات الأخطار التي كانت تواجهها قبل العام 1187م، عندما استوطن الصليبيون والفرنجة، القادمون من بلاد الغالة؛ فرنسا, ومن انجلترا وألمانيا والنمسا، ومن كل الامبراطوريات الأوروبية التي سادت في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، وسكنوا القدس وفلسطين وبنوا لهم فيها مستوطناتٍ في الرها وأنطاكية وبيت المقدس وصفد وغيرها، وظنوا أنهم سيخلدون في بلادنا، فعمدوا إلى تغيير معالمها وتبديل ثقافتها وفرض ديانتهم عليها، وقتلوا المعارضين لهم والمقاومين لوجودهم، وجاء ملوك أوروبا للحج في القدس، ومعهم وفودٌ عديدة اعتقدت أن الأرض التي دانت لهم ستكون لهم مدى العمر، وأنهم سيعمرون فيها ويشيدون المعابد والقصور، ويعيشون فيها وتحت ترابها سيدفنون.

إلا أن صلاح الدين ومعه كوكبةٌ مباركةٌ من علماء الأمة الإسلامية العاملين الأكفاء، الصادقين المخلصين، انبروا, عرباً وعجماً للدفاع عن القدس والمسجد الأقصى، فحرضوا على القتال، ودعوا الأمة إلى القتال والاستبسال لاستعادة أرضهم وتحرير قدسهم، وبثوا الحماسة في قلوب المسلمين، وزرعوا فيها الحمية والغيرة، وحركوا شبابهم وأطلقوا طاقاتهم وحرروا قدراتهم، وجابوا البلاد في مصر والشام يعبؤون الأمة ويشحذون هممها، حتى كان جيش صلاح الدين جيوشاً لجبةً، وأبطالاً عظاماً، وجنداً لا حصر لعددهم، يخافهم العدو ويحذر بأسهم، وقد كان لهم ما أرادوا، وحققوا الهدف الذي من أجله انطلقوا وعلى أساسه اتحدوا.

أما الولاة والعاملون، وأمراء الجند وقادة المناطق والقطع العسكرية المختلفة في كل البلاد والأمصار الإسلامية، فقد انشغلوا في إعداد الجند وتنظيم الجيوش وتدريب الناشئة، وشراء السلاح وتحديثه والاطمئنان إلى مخازنه والذخيرة المتوفرة فيه، وطهروا جيوشهم من كل الخونة والمارقين، ونظفوا صفوفهم من العابثين واللاهين، حتى لم يبق بينهم ومعهم إلا المخلصون الصادقون، الواثقون بنصر الله والساعون بصدقٍ وجدٍ إليه، الذين بهم انطلق صلاح الدين، ومعهم قاتل الأعداء وانتصر عليهم.

واستجاب لصلاحِ الدين وقادتِه ورجالِه, التجارُ والأثرياءُ، والأغنياءُ والقادرون من أبناء الأمة، الذين تبرعوا بما يملكون وجادوا بما يستطيعون، وملأوا خزائن الجيش ومستودعاته بالمؤونة والغذاء وغير ذلك مما تحتاج إليه الجيوش، ويلزم الجند للمسير والقتال، والصبر والثبات، حيث كانت المؤن والأغذية تصل إلى الجيش من أقصى أصقاع الأرض في صعيد مصر وشمال بلاد الشام، حتى ما بقي قاطنٌ في هذه الأرض إلا وكان له سهمٌ في هذه المعركة، وفضلٌ في تحقيق النصر وتحرير الأرض واستعادة القدس.

نحن اليوم أحوج ما نكون إلى مثل هؤلاء القادة والرجال، الذين ينذرون حياتهم من أجل الوطن، ويضحون في سبيله بأرواحهم وأموالهم، ولا يخافون من العدو، ولا يجبنون عن مواجهته، ولا يتأخرون عن ملاقاته، ويبذلون غاية جهدهم لتوحيد الأمة وجمع كلمتها ورص صفوفها، ولعل حطين التي أغاظت الفرنجة وهزمت الصليبيين ودفعت جنرالهم جورو أن يقول للدمشقيين: ها قد عدنا يا صلاح الدين، تنتظر منا أن نعيدها من جديد بانتصارٍ آخر وتحرير كبيرٍ، يشفي القلوب ويروي غليل العطشى إلى استعادة الكرامة، واسترجاع العزة التي فقدت والهيبة التي ضاعت.

أضف تعليقك