• الصلاة القادمة

    الظهر 11:01

 
news Image
منذ ثانيتين

في الأسبوع الثاني من كانون الأول/ ديسمبر 2017، قرر الرئيس ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأمريكية إليها. وهذا القرار من الواضح أنه لا يرتب آثارا كثيرة، قانونية وسياسية، ولكنه يكرس واقعا على الأرض لا يكترث بالوثائق القانونية، كما كان اختبارا لموقف العالم كله من قضية القدس والقضية الفلسطينية.

ولم يفاجأ ترامب بالمواقف العربية والإسلامية الرسمية والشعبية أو يضعها في حسبانه، بل إنه بنى قراره على تفهم الحكومات للقرار. وانسجم بهذا القرار مع إحدى وعوده الانتخابية، دون أن يكترث بعزلة الولايات المتحدة الديبلوماسية بسبب القرار. فانعقد مجلس الأمن، فاستخدمت واشنطن الفيتو ضد مشروع القرار المصري الذي أيدته كل الدول الأعضاء وأعاقت واشنطن صدوره، علما بأن مشروع القرار يؤكد على مواقف مجلس الأمن السابقة في الموضوع. ولذلك فإن قرارا جديدا لن يضيف شيئا إلى ترسانة القرارات السابقة، كما أن المشكلة ليست في القرار، وإنما في توجه الولايات المتحدة كدولة نحو تحدى قرارات الأمم المتحدة والعالم، والانحياز المطلق لإسرائيل. وهذا ثمن دفعته كل الإدارات الأمريكية، خاصة بعد تفكك العالم العربي عقب صفقة السلام المصرية الإسرائيلية وغزو العراق للكويت.

لم يفاجأ ترامب بالمواقف العربية والإسلامية الرسمية والشعبية أو يضعها في حسبانه، بل إنه بنى قراره على تفهم الحكومات للقرار

وقد انعقدت الجمعية العامة في جلسة استثنائية، خاصة أن هذا النوع من الجلسات يشترط أن يشل مجلس الأمن بسبب الفيتو، وهو شرط تحقق في القضية. ومعنى ذلك، أن جلسة الجمعية العامة الاستثنائية بعد شلل مجلس الأمن، حيث تنقل صلاحيات المجلس إلى الجمعية، والتي تضفي على قراراتها نفس الصفة الإلزامية، وفقا لما جاء في قرار الجمعية العامة رقم 377 أ عام 1950، المعروف بالاتحاد من أجل السلم بعد شلل مجلس الأمن بالفيتو السوفييتي للعمل ضد عدوان كوريا الشمالية على كوريا الجنوبية.

وقد حظيت القضية الفلسطينية بعدد من الدورات الاستثنائية عام 2003، في قضية الجدار العازل، وعام 2009، في قضية العدوان الإسرائيلي على غزة، ثم الدورة الأخيرة في 21/12/2017.

في هذه المقالة نحلل نقطتين، الأولى هي تحليل القرار وأنماط التصويت عليه، والنقطة الثانية هي المشهد في حالة الصراع بين الواقع الذي تفرضه إسرائيل والقانون الذي يدعم الفلسطينيين، واستشراف ما يمكن عمله على المستوى الديبلوماسي.

ولكننا نلاحظ ابتداءً؛ أن موقف واشنطن من قضية القدس قد تغير بقدر تمكينها لإسرائيل في العالم العربي، فقد امتنعت واشنطن عن التصويت على أهم قرارات المجلس الذي أبطل التشريع الإسرائيلي بضم القدس عام 1980 (القرار 478)، مقارنة بموقفها المتحدي والفريد في اجتماع المجلس نفسه في كانون الأول/ ديسمبر2017. كذلك لاحظنا اختلاف موقف الولايات المتحدة في الجمعية العامة خلال عقود من الزمن، استنادا إلى نفس المؤشر.

النقطة الأولى: تحليل قرار الجمعية العامة

أصدرت الجمعية العامة، في دوراتها الاستثنائية حول القدس، قرارا يعتبر القرار الأمريكي مدعاة للأسف، وليس له أي أثر قانوني على وضع مدينة القدس. وأكد القرار أن الوضع النهائي للمدينة يتقرر بالمفاوضات وحدها، وفق قرارات الأمم المتحدة.

هذا القرار يمكن قراءته بطريقتين، القراءة الأولى أن وضع مدينة القدس في قرار التقسيم لم يتغير، وأن تغيره يتم بالتفاوض، أي بعملية سياسية، وبذلك لا يعترف بأي تغير من طرف إسرائيل على الطابع الجغرافي والديمغرافي والأثري للمدينة.

هذا القرار يُقرأ مع قرار مجلس الأمن 242 الذي حفظ وضع القدس، واعتبرها مدينة محتلة. وفي تقديرنا أن القرار الأخير لم يعترف بتهويد غرب القدس، وإنما الدول العربية هى التي اعترفت بتركيزها على شرق القدس دون غربها.

القدس شرقا وغربا يتم الاتفاق عليها بالتفاوض، أي أن موقف العرب المطالب بإنشاء دولة فلسطينية عاصمتها شرق القدس لا بد أن يكون في إطار اتفاق مع إسرائيل، ولا يجوز أن يسلم العرب لإسرائيل بغرب القدس دون مقابل

القراءة الثانية؛ هي أن القدس شرقا وغربا يتم الاتفاق عليها بالتفاوض، أي أن موقف العرب المطالب بإنشاء دولة فلسطينية عاصمتها شرق القدس لا بد أن يكون في إطار اتفاق مع إسرائيل، ولا يجوز أن يسلم العرب لإسرائيل بغرب القدس دون مقابل، كما أن اقتسام القدس بين الطرفين يتناقض مع قرارات الجمعية العامة ومجلس الأمن.

والقرار الذي صدر بمناسبة موقف الرئيس ترامب؛ يحمي وضع القدس من القرار الأمريكي من الناحية القانونية. ولكن الواقع شيء آخر، فقد أعلنت إسرائيل عن برامج لبناء المستوطنات لشرق القدس، ورفضت القرار، كما أن بعض الدول، مثل نيكاراجو، نقلت سفاراتها بالفعل إلى القدس، وهو نفس الموقف الذي اتخذته عام 1980 لولا الحزم الأممي والأمريكي ضد هذه الخطوة.

حصل القرار على أكثر من ثلثي الدول التي حضرت الجلسة، وهي 172 دولة، وبذلك يضاف سبب آخر لإلزاميته، وهو نسبة المؤيدين له. فقد أيد القرار 128 دولة واعترضت عليه إسرائيل والولايات المتحدة طبعا، وسبع دول أخرى، هي الملحقات الأمريكية في المحيط الهادي، بالإضافة إلى هندوراس وجواتيمالا، وكذلك توجو من أفريقيا، وهي الدولة الأفريقية الوحيدة التي أيدت القرار، بينما امتنعت عن التصويت 35 دولة، بعضها أعضاء في الاتحاد الأوروبي، وبعضها أعضاء في الاتحاد الأفريقي، وبعضها أعضاء في منظمة التعاون الإسلامي. وهذا يتطلب إبداء عدد من الملاحظات:

الملاحظة الأولى؛ هي أن بعض الدول الأفريقية امتنعت عن التصويت، وهي مالاوى وجنوب السودان ورواندا وأوغندا والكاميرون وبنين وغينيا الاستوائية. فهل تأثرت هذه الدول بتهديد ترامب بقطع المعونات؟

يهمنا الإشارة إلى جنوب السودان، ونعتقد أن الخلاف بين الشمال والجنوب في السودان أثر على موقف الجنوب من القضايا ذات الطابع الإسلامي، وهي الخلفية التي انفصل بسببها - المعلن على الأقل - جنوب السودان، وإن كانت خطة فصل الجنوب قد تقررت منذ أواخر أربعينات القرن الماضي.

وإن كنا نعتقد أن جنوب السودان وعلاقته بإسرائيل قد ساهم في تفسير موقفه، فهو يري الحق العربي في القدس، ولكنه لا يريد أن يغضب إسرائيل بالانضمام إلى الدول المؤيدة لهذا الحق؛ باتخاذ موقف وسط وهو الامتناع عن التصويت.

الملاحظة الثانية؛ تتعلق بموقف الدول الأوروبية وكندا وأستراليا التي امتنعت عن التصويت، ذلك أن كندا وأستراليا من الدول المعترضة على موقف إسرائيل، ولكن يبدو أن الموقف الأمريكى الصارخ قد أزعج هاتين الدولتين، فصوتتا على هذا النحو. أما الدول الأوروبية الأخرى، وهي بولندا ورومانيا والتشيك والمجر، فهي تنتمى إلى شرق أوروبا، وتحتاج إلى تفسير؛ ربما علاقاتها بالولايات المتحدة هي التي أثرت أيضا على الفلبين وبارجواى والمكسيك وبنما وجاميكا والدومينكان والأرجنتين؛ التي اختارت الامتناع عن التصويت.

الولايات المتحدة، وتهديدها الصارخ، وثقلها في المسألة، قد أثر على مواقف بعض الدول، ولكن لم يكن التأثير كافياً لكي تتحول مواقفها إلى معارضة القرار

الملاحظة الثالثة؛ تتعلق بموقف الدول الإسلامية التي امتنعت عن التصويت، وهي أوغندا والبوسنة والكاميرون. وهذه الدول كانت دائما تؤيد الحق العربي في القدس، ولم تتحفظ على موقف التعاون الإسلامي الأخير من القضية. أما البوسنة التي ساهم العالم الإسلامي في دعمها ضد الصرب، وتأثير عزت بيجوفتش (أول رئيس لها)، فإن موقفها أغضب التيارات الإسلامية التي ساندتها في الحرب مع الصرب والمذابح؛ قبل اتفاق دايتون عام 1996.

نخلص مما تقدم في هذه النقطة إلى أن الولايات المتحدة، وتهديدها الصارخ، وثقلها في المسألة، قد أثر على مواقف بعض الدول، ولكن لم يكن التأثير كافياً لكي تتحول مواقفها إلى معارضة القرار.

النقطة الثانية: الصراع بين الواقع والقانون عقب القرار

كان القرار الأمريكي تحديا للمجتمع الدولي، ولقرارات الجمعية والمجلس ومواقفهما السابقة، كما جرد واشنطن من التأهل للوساطة في القضية، وكشف أن شعار السلام كان خدعة تمكن المشروع الصهيوني تحته من كسب الأرض والوقت.

جرد القرار واشنطن من التأهل للوساطة في القضية، وكشف أن شعار السلام كان خدعة تمكن المشروع الصهيوني تحته من كسب الأرض والوقت

والمعلوم أن العلاقات الدولية تقوم على أوراق القوة في مواجهة القانون. ولأول مرة في التاريخ يزعم نتنياهو أنه يملك الحقيقة، ويتحدى بها العالم، معتمدا على ضعف العرب واختراقهم واستئناسهم. ولذلك، فإن الآفاق المفتوحة أمام الحكومات العربية لإحراج إسرائيل والدفاع عن الأقصى؛ مرهونة بتوفر الإرادة السياسية في مواجهة واشنطن. ولكن في كل الأحوال لا يمكن إغفال المكاسب الديبلوماسية الضخمة التي أعادت القضية الفلسطينية إلى أولويات العالم.

فرض الأمر الواقع في القدس وفلسطين يمكن أن يسهم في تفجير العلاقة بين الشعوب والحكام في المنطقة العربية، وهي تتجه نحو الانفجار بالفعل

وقد أشرنا في مقال سابق إلى مستويات الضغوط المرتبطة بالإرادة العربية، وحذرنا من أن فرض الأمر الواقع في القدس وفلسطين يمكن أن يسهم في تفجير العلاقة بين الشعوب والحكام في المنطقة العربية، وهي تتجه نحو الانفجار بالفعل. فلا الحكومات قادرة على حيازة أوراق القوة وممارستها، ولا الشعوب قادرة بمظاهراتها على وقف تهويد القدس وفرض الأمر الواقع.. وفي إطار هذه المعادلة، فليجتهد المجتهدون.

أضف تعليقك