بقلم: الأسير القسامي عبد الناصر عيسى
في رده على إعلان ترامب المشؤوم، فكر أبو مازن واتخذ قرارات ليس من الممكن إلا اعتبارها موضع إجماع فلسطيني شبه كامل، ليس لأنها متقدمة، كما آمال الشعب الفلسطيني في الرد على إعلان ترامب وإنما لأنها تشكل الحد الأدنى المقبول وطنيا وشعبيا، ومن أهم هذه القرارات -الإعلان أخيرا أن الولايات المتحدة شريك في الاحتلال وليست مجرد وسيط منحاز له، والتوجه للانضمام لمنظمات ومعاهدات دولية هامة، وما يرافق ذلك من خطاب سياسي ذي نبرة عالية تجاه إدارة ترامب، إضافة إلى تشجيع الاحتجاجات الشعبية السلمية .
لم يتخل السيد الرئيس عن أمريكا كوسيط منحاز يدعي الحياد إلا بعد أن تخلت هي عنه فعليا، وذلك بإعلانها القدس العربية عاصمة للدولة اليهودية، فلم يكن السيد أبو مازن يتوقع هو ومن يؤمن بطريقته في التخلص من الاحتلال، بإمكانية التوصل لنتائج معينة من عملية التسوية، إلا بانخراط فعلي وحقيقي للثقل الأمريكي كقوة عظمى تمتلك الثأثير الأكبر على دولة الاحتلال، أي: لقد آمن أبو مازن بأنه لا عملية تسوية دون الرعاية الأمريكية، فما باله اليوم يرى بإمكانية عملية تسوية جديدة بوجود أمريكي معين إلى جانب خماسية أو سداسية دولية أو نحو ذلك .
يمكن القول بأن ميزان القوى الحالي لا يسمح لأبي مازن -وإن رغب واستعان ببعض الأصدقاء الدوليين- بتشكيل عملية تسوية مجدية، بحيث تضمن استجابة دولة الاحتلال لقرارات الشرعية الدولية العادلة نسبيا تجاه الفلسطينيين، كإقامة دولة على حدود 67 وعاصمتها القدس، وخاصة بعد أن مال ميزان القوى بصورة أكبر لصالح الإسرائيليين، بعد نجاحهم في تنمية علاقات واسعة سرية وعلنية مع بعض الدول العربية، لدرجة جعلت وزير الاستخبارات الصهيوني "كات" وبواسطة صحيفة إيلاف قبل أيام يدعو الملك سلمان لزيارة إسرائيل، ويطالبه بدعوة نتنياهو لزيارة السعودية، فالتقارير بهذا الصدد كثيرة .
من الواضح أن ورقة النضال السياسي والدبلوماسي التي يمتلكها السيد أبو مازن تزعج الأمريكان والإسرائيليين -لدرجة قد تدفعهم للعمل على استبداله- ولكن وعلى الأرجح لا تستطيع جباية الثمن الكافي منهم لدفعهم لتغيير مواقفهم الرئيسية في عملية السلام نحو تحقيق الحق الفلسطيني، أو بوقف الاحتكار الأمريكي بل الانحياز والشراكة الأمريكية الإسرائيلية فيها، ما قد يسهم بوضوح في وضع اللمسات الأخيرة على "تأبين" خطة ترامب والتي ولدت في وسائل الإعلام وهي ميتة أصلا على أرض الواقع، فلا معنى بعدها لمجرد الحديث عن خطة أو "deal" دون المشاركة أو الغطاء الفلسطيني .
إلى جانب عدم قدرة المعادلة النضالية لأبي مازن في تحقيق الحد الأدنى من أهداف الفلسطينيين، فإن ثمنها أو ثمن التمكن من النضال من خلالها هو ثمن باهظ بكل ما تحمله الكلمة من معنى فهو يتضمن التباطؤ بالمصالحة، ما يعني استمرار المعاناة الإنسانية لأكثر من مليوني جندي فلسطيني في كل المعادلات النضالية، و استمرار التنسيق الأمني مع إسرائيل والموجه ضد شرائح واسعة جدا من الفلسطينيين في الضفة والقدس، بمعنى تقديم الوحدة الوطنية الفلسطينية ثمنا لنضال سياسي ودبلوماسي ذي نتائج محدودة على أهميتها .
إن احتمالية حصول أحداث أو اتخاذ قرارات هامة و(كاسرة) للمعادلات السابقة هو أمر وارد وبدرجة عالية من الاحتمالية، فإذا التقى وضع الشرق الأوسط المتقلب باستمرار مع مزاج الرئيس ترامب الأكثر تقلبا منه، فإن المنطقة على موعد مع المزيد من التقلبات والتي تضر بالدرجة الأولى اللاعبين الضعفاء والمنقسمين .
من المناسب الإشارة إلى أهم العوامل التي قد تكسر المعادلات، وعلى سبيل المثال اتخاذ ترامب أو حكومة إسرائيل اليمينية للمزيد من الخطوات الاستفزازية وخاصة بما يتعلق بموضوع الأقصى والقدس، أو بروز متوقع لتداعيات الانقسام الفلسطيني كتعاظم المعاناة الإنسانية في غزة، أو اعتداء إسرائيلي على قطاع غزة، كضرب نفق استراتيجي جديد أو اغتيال شخصية قيادية هامة أو نجاح المقاومة في الضفة في تفعيل إمكانياتها وقدراتها. إن حصول أحد هذه العوامل أو أكثر سيعيد خلط الأوراق من جديد .
فيمكن للسيد أبي مازن أن يناضل ويكافح سياسيا ومعه كل فصائل الشعب الفلسطيني، وعلى رأسها حماس المحاصرة والكاظمة لغيظ حصارها من أجل القدس، كما يمكنه الحصول على بعض النقاط الهامة والتي ستمنح الشعب الفلسطيني إنجازا وفرحة يستحقها ولكنها ممزوجة "بحسرة" عقوباته على شعبه المظلوم في قطاع غزة أو بعيب ملاحقة المقاومة ببعض أشكالها في الضفة والقدس.
وأخيرا يمكن لنضال أبي مازن -وفي أحسن حالاته- أن يكسر الاحتكار الأمريكي لرعاية ما يسمى عملية سلام الشرق الأوسط، وقد يعري بعض الأنظمة العربية المتواطئة، ولكن ذلك يتم بثمن باهظ، هو الوحدة الوطنية الحقيقية وهي الشرط الأساسي لنجاح أي معادلة نضالية لشعب يرزح تحت الاحتلال.
إنها معادلة أبي مازن المؤلمة والمستحيلة، وهو مطالب وطنيا في إعادة تقييم تحالفاته الدولية والأهم فرضياته الأساسية حول عملية التحرير، وإنشاء مقاربة جديدة أساسها الإجماع والوحدة الوطنية الفلسطينية .
أضف تعليقك