دفعة جديدة من صحفيي مصر لحقت مؤخرا بعشرات آخرين خلف البوابات السوداء للسجون المصرية، ربما كانت الموجة الأكبر لإعتقال الصحفيين في شهر واحد بعد الموجات الأولى التي تلت إنقلاب الثالث من يوليو 2013 مباشرة، أوتلك التي تمت على خلفية مظاهرات يوم الأرض 15 و25 إبريل 2016 بعد قرار السلطات المصرية بتسليم جزيرتي تيران وصنافير للملكة العربية السعودية.
يمكن وصف المجموعة الجديدة قراللصحفيين بمعتقلي مظاهرات القدس، حيث كانت هذه الموجة جزءا اصيلا من مشهد الإحتجاجات الشعبية المصرية على قرار الرئيس الأمريكي ترامب بنقل سفارة بلاده إلى القدس في مخالفة واضحة المواثيق والإتفاقيات الدولية.
كانت سلالم نقابة الصحفيين سباقة كعادتها لاحتضان وقفة احتجاجية للصحفيين المصريين ولعموم النشطاء دعا لها 4 من مجلس نقابة الصحفيين بعد أن رفض نقيب الصحفيين توجيه الدعوة باسم المجلس كاملا، حيث أن هذا النقيب وغالبية المجلس هم مجرد تابعون للأجهزة الأمنية لا يستطيعون أن يفعلوا ما يغضبها على خلاف تاريخ ممتد لنقابة الصحفيين كانت فيه دوما في طليعة النقابات والهيئات الداعيية لفعاليات احتجاجية في القضايا الوطنية والقومية.
كانت مظاهرة الصحفيين سابقة لجمعة الغضب التي عمت العالمين العربي والإسلامي، وكانت السلطات المصرية حريصة على منع انتشار عدوى التظاهر مجددا فقبضت على عدد من المشاركين في الوققة، وكان منهم الصحفيان أحمد عبد العزيز وحسام السويفي، ورغم أن الإعتقال تم من فوق سلالم نقابة الصحفيين، وبعد مشاركة في وقفة دعا لها 4 من مجلس النقابة المنتخبين إلا أن النقابة اكتفت بإصدار بيان هزيل للتضامن الشكلي مع الصحفيين المحتجزين، دون أن تفعل ما هو أكثر من ذلك، بل إن سكرتيرها العام أعلن أنه كانت لديه معلومات من الأجهزة الأمنية بطلبات لاعتقال الصحفيين لكنه لم يخبرهما بذلك، وكأنه أراد ان يؤكد للأجهزة الأمنية إخلاصه لها حتى تنتهي من مهمتها بالقبض عليهما رغم أنهما عضوين بالنقابة، ولهما حق التمتع بحمايتها.
سبق اعتقال هذين الصحفيين اعتقالات أخرى شملت الصحفي إسلام عبد العزيز في مطار القاهرة مطلع يناير أثناء سفره إلى الكويت، والصحفي عمر السيد من وكالة انباء الشرق الأوسط الرسمية، والصحفي عبد الله قدري من موقع مصراوي يوم 14 يناير الجاري، وعقب مظاهرة التضامن مع القدس على سلالم نقابة الصحفيين اعتقلت الشرطة الصحفيين أحمد أبو زيد الطنوبي الناشط النقابي والحقوقي، والصحفي أحمد بيومي، وكذا الصحفي وليد البدري، وهذا الأخير تم القبض عليه أثناء ممارسته لعمله الميداني، بينما تم القبض على زميليه الآخرين من منزلهما فجر الجمعة الماضية.
هذه الاعتقالات المتلاحقة والمتصاعدة للصحفيين لم تعد أمرا غريبا في مصر، فهذا النظام العسكري الحاكم لا يمكنه التعايش مع صحافة حرة أو مستقلة، وقد بدأ عهده بإغلاق العديد من القنوات والصحف، واعتقال عشرات الصحفيين تجاوز عددهم 300 صحفي على مدى السنوات الأربع الماضية( قضى غالبيتهم فترات حبس واحتجازمتباينة)، ولا يزال
حوالي مائة منهم خلف القضبان حتى هذه اللحظة، وهذا النظام الذي يستعد لإجراء انتخابات رئاسية جديدة بعد 3 شهور تقريبا حريص كل الحرص أن يقضي تماما على أصوات قد تكون مزعجة له في تلك الانتخابات ليدخل إليها بدون إعلام حقيقي مكتفيا بتلك الأبواق التي صنعها على عينه، والتي لا تحسن إلا التسبيح بحمده.
اعتقال المزيد من الصحفيين هو جزء من صورة قاتمة لأوضاع الإعلام المصري الذي يمر بأسوابأسوأ أيامه، فالسلطة تفرض روايتها للأحداث بالقوة العسكرية وحتى بقوة القوانين الجائرة التي تفرض غرامة نصف مليون جنيه على من ينشر روايات مغايرة للرواية الرسمية، وهذا ما يفسر حالة التعتيم الكامل على العمليات المسلحة التي تجري في سيناء والتي كان منها حادث مسجد الروضة الذي قتل فيه أكثر من 300 مواطن وحادث مطار العريش الذي استهدف وزيري الدفاع والداخلية، والسلطة لم تكتف بتوجيه التعليمات الشفهية أو المكتوبة للصحف أو القنوات، أو إبعاد العناصر غير الموثوقة منها.
ولكنها عمدت إلى تملك هذه القنوات ملكية مباشرة عبر العديد من الشركات المدنية التابعة مباشرة للمخابرات المصرية، والتي نجحت مؤخرا في شراء العديد من القنوات من ملاكها مثل شبكة قنوات الحياة وسي بي سي وأون تي في، والعاصمة، وأنشأت شبكة قنوات دي إم سي.
واشترت العديد من المواقع الخبرية الكبرى مثل اليوم السابع وصوت الأمة ودوت مصر ومبتدأ الخ، ويرجع السبب في هذه السياسة الجديدة - تملك القنوات مباشرة - إلى رغبة السيسي في عدم حدوث أي مفاجآت إعلامية أثناء الانتخابات المقبلة كالتي حدثت في انتخابات 2014 حين أظهرت القنوات الفضائية اللجان خاوية.
وكان ذلك نوعا من الضرب تحت الحزام من قبل رجال الأعمال ملاك تلك القنوات الذين أرادوا أن يرسلوا للسيسي رسالة أن بمقدورهم التأثير على النتيجة، وكان ذلك ردا منهم على فرض اتاوات كبيرة عليهم وليست في مقدورهم لصالح صندوق تحيا مصر الذي انشأه حديثا.
جانب آخر من المشهد يتمثل في حصار الإعلام الاجتماعي ( مواقع الإنترنت والفيس بوك وتويتر واليوتيوب إلخ) وقد سبق للنظام أن أغلق أكثر من 400 موقع إلكتروني، ولا تزال الإغلاقات مستمرة، وستستمر بوتيرة متصاعدة حتى موعد الانتخابات الرئاسية كنوع من تأمين المنظومة الإعلامية لصالحه تماما، وبينما يواصل النظام المصري فرض هيمنته، ويواصل مراقبة المواقع الإلكترونية والحسابات الشخصية على مواقع التواصل وإغلاق الكثير منها بفضل تقنيات تجسس
وفرتها له الإمارات عبر تعاقد مع شركة فرنسية، فإن النيابة الفرنسية فتحت تحقيقا مع تلك الشركة التي خالفت القانون الفرنسي، وهذه فرصة لكل المتضررن في مصر للإنضمام لتلك القضية التي يسمح فيها القضاء الفرنسي بذلك.
الحملة على الإعلام المصري هي أمر طبيعي جدا في ظل نظام حكم عسكري لا يستطيع التعايش مع صحافة حرة، ومع شفافية وتداول حر للمعلومات، ويمتلك رؤية للإعلام تجد في إعلام عبد الناصر مثلها الأعلى، لكنه في الحقيقة تفوق على عبد الناصر كثيرا في قمعه للإعلام، وهو القمع الذي سيستمر طالما استمر هذا النظام.
أضف تعليقك