لا يتوقف الجدل حول التصنيفات في الساحة الإسلامية، بين وسطي ومتشدد ومائع، وسوى ذلك من التصنيفات، وهو جدل لا ينحصر في الأوساط المعادية للظاهرة الإسلامية بشكل عام، ولا في الأوساط الرسمية، بل يتعداها إلى الأوساط الإسلامية ذاتها، والتي تتراشق تياراتها مقولات التنصيف على نحو دائم، وصولا إلى تحريض بعضها على بعض.
في الآونة الأخيرة عاد مصطلح “الإسلام الوسطي” إلى التداول من جديد، فيما كان آخرون قد سبقوا ذلك بالحديث عن مراجعة للنصوص، أو تجديد للخطاب، بينما شرع آخرون في تنفيذ المراجعة، حتى وصل الحال ببعضهم حد إلغاء “البسملة” من الكتب المدرسية.
الجانب الأهم الذي تنبغي الإشارة إليه في هذا السياق، هو ذلك الذي تحدثنا عنه مرارا هنا، ممثلا في ربط موجة العنف الراهنة بالإسلام ومناهجه وكتبه وبعض علمائه، الأمر الذي لا يمت إلى الحقيقة إلا بخيط رفيع؛ لأن الموجة المشار إليها هي نتاج ظروف موضوعية حقيقية، وما تصدُّر اللون السلفي الجهادي لها إلا بسبب شيوع المد السلفي بكل ألوانه في الألفية الجديدة؛ تماما كما أن قوى ما يعرف بالإسلام السياسي “المعتدلة” هي من تصدر الربيع العربي، ولو حدث أن كان المشهد مختلفا من حيث اللون الفكري السائد، لتصدرت الموجتين قوىً من ألوان أيديولوجية أخرى. ونعيد التذكير هنا بالسؤال الذي طرحنا مرارا، وهو لماذا لم تنتج هذه الكتب والأفكار التي كانت موجودة دائما العنف إلا في هذه المرحلة، وهل ظهر ابن تيمية منذ سنوات مثلا؟!
الجدل الجديد حول الإسلام ومفرداته وخطابه، وإن حفزته موجة العنف المشار إليها، إلا أن حافزه الأكبر يتمثل في قناعة البعض بأن موجة التدين الراهنة هي التي تمثل الحاضنة لقوى الإسلام السياسي بكل أطيافها، ولن يتم حصار هذه القوى إلا بضرب حاضنتها، ما يعني أن عين البعض مصوّبة على ضرب ظاهرة التدين برمتها أكثر من ترشيدها بخطاب عقلاني، وكل ذلك في سياق يريد تكريس الأوضاع الراهنة بعيدا عن أي إصلاح سياسي.
لا حاجة للتفتيش عن النوايا، فهي ليست واحدة، وإن حاول البعض الحديث عن ترشيد الخطاب الديني، بعد مرحلة تفوق فيها الخطاب السلفي عما عداه، خلافا لحال أكثر القرون التي لم كان فيها الخطاب المذكور (يمثله المذهب الحنبلي) هو الأقل حضورا قياسا بالمذاهب الثلاث الأخرى في الحالة السنيّة، مع أن من الصعب حشر السلفية الجديدة في المذهب الحنبلي، إذ تجاوزته نحو طرح ينبذ المذهبية برمتها، ويترك لكل أحد أن يتعامل مع الحديث النبوي بطريقته، وهو ما جعل ذات المرجعية الفكرية تنتج نقيضين؛ الأول يمثله تنظيم داعش وقوىً جهادية أخرى، والثاني هو نقيضه تماما، أعني الذي يرفض العمل السياسي ويؤيد الأوضاع الراهنة بما هي عليه. ومن هنا نشأت فكرة البعض (الجديدة) حول إعادة النظر في مسألة الحديث النبوي، لأنها هو ذاته مرجعية النقيضين (قبله القرآن بالطبع مع تأثير للحديث على تفسيره).
إذا كنا أمام محاولة لترشيد الخطاب الديني، فإن السؤال الأهم الذي يطرح نفسه هو: من هو المؤهل للقيام بالمهمة؟ هل هي الأنظمة ومن يدورون في فلكها من العلماء، أم هناك جهات أخرى؟
لا شك أن للسياسة تأثيرها على الخطاب الديني، وحين تنحاز إلى لون معين، فإنها توفر له فرص الانتشار أكثر من غيره عبر منحه منابر التأثير، ومحاربة خصومه، لكن الدين يبقى أكبر من هيمنة السياسة، ويملك القدرة على التمرد عليها بهذا القدر أو ذاك، وبالطبع بوجود قوىً تتبناه، وعلماء ربانيون يرفعون رايته بتجرد واستقلالية، حتى لو كانوا قلة؛ لأنهم يظلون الأقرب إلى الضمير الجمعي للناس.
على أن أحدا في التاريخ لم يتمكن من حشر الإسلام في تفسير واحد، وبقيت التعددية هي السمة الدائمة، وهو ما سيحدث هذه الأيام، مع فارق بالغ الأهمية راهنا، يتمثل في أن الخطاب المقنع سينال حظا أكبر بوجود الإنترنت ومواقع التواصل التي تمنح العلماء الصادقين فرصة التمرد على الجغرافيا والسياسة في آن. أما استهداف التدين برمته، فيمثل لعبة تحفها المخاطر في ظل الصحوة الراهنة، وقد يؤدي إلى موجة عنف جديدة.
الخلاصة أن ترشيد الخطاب الديني أمر ملح، لكنه سيخضع بدوره للتدافع الفكري الطبيعي، أكثر من خضوعه لسطوة السياسة، وفي النهاية سيذهب الزبد “جفاءً”، ولن يمكث في الأرض إلا ما ينفع الناس.
أضف تعليقك