أشارت مقالة سابقة لصاحب هذه السطور إلى مقولة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، التي يتبناها في إصلاح منظمة الأمم المتحدة، وفي مقدمتها مؤسسة مجلس الأمن التي تضطلع، في واقع الأمر، بما يمكن تسميتها إدارة العالم، إذ قال "العالم أكبر من خمسة". وكان يشير في ذلك إلى حق النقض (الفيتو) الذي تتمتع به دول خمس وصفت بالكبرى.
حينما تستخدم "الفيتو" يكون القرار منعدما، مهما كان عدد الذين وافقوا على مشروع القرار، حتى لو كان إجماعا شذّت عنه دولة واحدة. وتعبر هذه القراءة عن قراءة دقيقة عميقة لمنظومة الأمم المتحدة ومجلس أمنها، حيث الخلل شديد، كما ميزان القوى في تسيير الأمور الدولية في المسائل الخطيرة والقضايا الكبيرة التي غالبا ما تتورط فيها إحدى الدول الخمس الكبرى، وهو ما يعني أن القرارات ذات الخطورة والأهمية غالبا ما تلاحق بحق النقض من تلك الدول، مدافعة عما تراها مصالحها، حتى لو كان ذلك يمثل غبنا وظلما مركّبا للمعمورة وأهلها من الدول الأخرى.
يمكن، في هذا السياق، فهم هذا "الفيتو" الذي استخدمته الولايات المتحدة الأميركية ممثلة في مندوبتها، هيلي، التي اعترضت على مشروع القرار الذي يؤكد أنه ليس من حق أي دولة أن تغير الوضع الذي يتعلق بالقدس، في إطار قرارات أخرى صدرت عن الأمم المتحدة. وللأسف، فإن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، متخذ هذا القرار الذي يتعلق بالقدس، يتصف بالعنصرية الفائضة والبلطجة الزائدة، وهو يواجه كل الدنيا، حتى لو قالت إن قراره بشأن القدس ونقله سفارة بلاده إليها، باعتبارها، بحسبه، عاصمة لدولة الكيان الصهيوني، غير صائب، قد يسير في غيه، ويعلن أنه لن يتراجع. وأكثر من ذلك، فإنه يبرّر ذلك القرار بأنه يساعد في إتمام عملية السلام المزعومة وإجرائها. الأكثر من ذلك، أنه يؤكد أن ذلك يشكل اعترافا بالواقع، ومن حق الكيان الصهيوني، وهي دولة ديمقراطية بحسبه، على الرغم من عنصريتها البادية ووصفها دولة احتلال واغتصاب، اختيار القدس عاصمة لها ما أرادت، متجاهلا كل القرارات والمواثيق الدولية، وكذلك الخصوصية التي تتمتع بها قضية القدس. "يبدو أصل القضية في مواقف متخاذلة عليها من مؤشرات الضعف والهوان من الرسميين العرب"
استخدمت الولايات المتحدة حق النقض، على الرغم من أن أربع عشرة دولة، بما فيها الأربع دول الدائمة الأخرى، وافقت على مشروع القرار، إلا أن مندوبة أميركا في مجلس الأمن رفعت يدها عاليا، مصوّتة وممارسة حق النقض، ومبرّرة ذلك بأن أميركا قد قرّرت استخدام هذا الفيتو لمصلحة عملية السلام. كان ذلك نموذجا خطيرا للخلل البادي في منظومة الأمم المتحدة، حينما يجلس على عرش السلطة في الولايات المتحدة رئيس عنصري أهوج، يمارس البلطجة السياسية من كل طريق، ويهدم بشكل خطير كل ما يتعلق بالأصول والقواعد الدولية، معتبرا أن وعده الانتخابي هو المقدس عنده، وهو، في حقيقة الأمر، أعطى وعدا ممن لا يملك لمن لا يستحق. وعلى الرغم من تنبيه الكافة أن ذلك سيعوق المشكلة وأصل القضية، ويؤدي إلى عقباتٍ وتحدياتٍ، ضمن عملية سلام متوهمة، لم تتقدّم خطوة في ظل حكومة نتنياهو في ظل دولة عنصرية في حماية رئيس عنصري، ليمارس حالة من البلطجة الدولية، ويسمي الاثنان هذا القرار تاريخيا.
ومن مكامن الخلل أيضا ألا يكون لحق النقض حقوق، على الرغم من أن بعض المهتمين بالعلاقات الدولية والقانون الدولي يذكرون أن من تقدم بالقرار تلاعب بالأمر، في ظل لعبة "الفيتو"، فكان على من قدّم القرار أن يذكر صاحب القرار نصا، وهي الولايات المتحدة الأميركية، وتسمية هذا القرار بأنه أميركي، حتى تكون هذه الدولة طرفا، فيمتنع عليها التصويت بالنقض، لوجود مصلحة مباشرة لها، فيما هو محل للتصويت، فالقاعدة العرفية أنه لا يمكن أن يكون المتهم هو القاضي في الوقت نفسه. وأن يكون له الكلمة الفصل بالتعقيب على قرار استخدمت فيه مندوبة الولايات المتحدة، الموظفة في إدارة ترامب وتأتمر بأمره، حق النقض في مسرحيةٍ هزلية، فإن كان هذا ممتنعا قانونا، بما يشير إلى حالة عبثية، فمن تقدّم بالقرار مارس مجاملة للولايات المتحدة، من غير ذكر اسمها ونسبة القرار لها، حتى وإن لم يكن هناك سند قانوني، فإن الأمر يشير إلى حالة عبثية خطيرة، تقوم فيها الولايات المتحدة بدور المتهم والقاضي على حد سواء، حيث تكون لها الكلمة الفصل، وهي المعنية بالقرار، وهي من اتخذ القرار الباطل في مواجهة قرارات دولية سابقة.
ويبدو أصل القضية في مواقف متخاذلة عليها من مؤشرات الضعف والهوان من الرسميين العرب، فها هو مسؤول فلسطيني يشير إلى أن السلطة الفلسطينية طلبت عقد مؤتمر للقمة العربية، إلا أن دولا بعينها قد عوقت ذلك، خرجت وعبرت عن مواقف باهتة وتافهة لا تليق بأصل القضية الفلسطينية وقضية القدس التي تعد الجوهر فيها، وهي تسمي نفسها دولا تقود الإقليم وتسيره، وتستحي أن تدين سيدها الأميركي بأي عبارة، بل ترى أن الولايات المتحدة لا تزال الوسيط النزيه. أي نزاهةٍ تلك يعبر عنها هؤلاء المنبطحون الذين لا يجيدون إلا الكلام "حالة عبثية خطيرة، تقوم فيها الولايات المتحدة بدور المتهم والقاضي على حد سواء، حيث تكون لها الكلمة الفصل، وهي المعنية بالقرار، وهي من اتخذ القرار الباطل في مواجهة قرارات دولية سابقة" الساكت الباهت، في أمر لا تنهض به إلا المواقف الصلبة والأفعال الحية؟ أكثر من ذلك، فإن هؤلاء في حركة التفافية تمثلت في طلب رئيس السلطة الفلسطينية بنقل القضية إلى تصويت في جهاز آخر، هو الجمعية العامة (هايد بارك الأمم المتحدة) التي تتخذ توصيات لا قرارات. ولكن الولايات المتحدة، من خلال البلطجي العنصري، ترامب، وسليلته مندوبة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة ترفع صوتها عاليا لتحذّر كل من يصوت ضد قرار ترامب، فتقول كلاما غريبا، يمثل وصول الأمر في إدارة السياسية الدولية إلى أعلى درجات السخرية. إنها تهدد وتتوعد أنها ستكتب أسماء الدول التي تصوّت ضد القرار الأميركي، وترفعها إلى ترامب، ليتخذ إجراءات وعقوبات، وتحذر دولا تتلقى مساعدات من الولايات المتحدة: لا نعطيكم تلك المساعدات لتقولوا "لا" لقرارات ترامب، أو تتهموا الولايات المتحدة بأنها ضد السلام.
أبحث في قواميس السياسة ومعاجمها ومؤلفاتها وكتبها، حتى يمكن أن أسكن تلك التصرفات المدهشة لرئيسٍ مثل ترامب، وتلك السياسات الطائشة لدولةٍ مثل السعودية، تبلطج فيها على رؤساء دول ورؤساء حكومات، وتحاول أن ترغمهم على اتخاذ مواقف وأفعال، وهم تحت الإقامة الجبرية وتفرض عليهم مواقف وسياسات. ولا أجد في علم السياسة بابا بعينه، حتى يمكن تسكين تصرفات رئيس عنصري مثل ترامب، وآخر مراهق في السعودية، سوى أن يشرع علماء السياسة في اختراع باب جديد، يمكن إدخال تلك الممارسات التي تتسم بالفجر والبجاحة والمراهقة والطيش فيه، باب يمكن تسميته "البلطجة السياسية".
أضف تعليقك