من حُسن الحظ، أن «مصطفى أمين» مات، فلو كان على قيد الحياة، لمات بالسكتة القلبية وهو يتابع ممارسات الحكم العسكري، في أسوأ طبعة له.
كان الكاتب الكبير لا يمل من ذكر قصة «نبيلة الأسيوطي»، مضيفة الطيران، والتي عملت بعد ذلك بالصحافة في جريدة «الأحرار»، فلا أستطع حصر عدد المرات التي قرأت فيها قصتها في «فكرة» عموده اليومي بجريدة «الأخبار»، فقد اعتقلها حكم العسكر بقيادة عبد الناصر، بتهمة الانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين، مع أنها مسيحية الديانة، وظلت هكذا حتى وفاتها، وليس أدل على هذا من أنها ماتت بسبب «وجبة فسيخ» مسمّمة، في عام جاءت فيه أعياد «شم النسيم» في شهر رمضان، وحدث تسمّم في الفسيخ، لقي بسببه المئات حتفهم، وكانوا جميعاً من المسيحيين، في بداية التسعينيات!.
زميلتنا «الأسيوطي»، تم الزج بها للسجن باعتبارها من الإخوان، وظلت أسرتها فترة طويلة تحاول أن تقنع الحكم العسكري العضوض بأنها مسيحية، وأرسلت شهادات من الكنيسة تؤكد هذا، لأن القوم لم يقتنعوا بالمدوَّن في بطاقتها الشخصية وشهادة الميلاد، أمام خانة الديانة!
وكان الكاتب الراحل يسوق هذه القصة للتأكيد على استبداد العسكر وطغيانهم، وقد اعتقلوا سيدة مسيحية بتهمة الانتماء لجماعة الإخوان المسلمين، وباعتبارها حالة تمثل نموذجاً مهماً للتدليل على ما يريد تأكيده، ولم يعش ليرى ما حدث مع الزميلين «أحمد عبد العزيز»، و»حسام السويفي»، حيث تم اعتقالهما بعد مظاهرة مندّدة بقرار الرئيس الأمريكي بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وهي مظاهرة كانت على «سلالم النقابة»، لأن بين ظهرانينا سُلطة، يتصرّف قائدها على أنه وكيل أعمال نتنياهو في القاهرة. وكان الاتهام الذي وجهته لهما جهة التحقيق بحسب المنشور في جريدة «الأهرام» أنهما ينتميان للجماعة الإرهابية!.
لقد تم الاعتقال، واختفى الزميلان لأربعة أيام، قبل أن يظهرا أمام النيابة، التي وجّهت لهما تهمة الانتماء للجماعة «الإرهابية»، وأنهما يشكّلان «خلية إعلامية إخوانية» بهدف نشر وترويج الأخبار الكاذبة، لصالح جماعة الإخوان، فأضحكوا بذلك الثكالى، ليس فقط للاتهام بالانتماء للجماعة، ولكن أيضاً بتوجيه الاتهام بتشكيل «خلية إعلامية»، وعهدنا باتهامات الخلايا، هو تشكيل خلية إرهابية، أو خلية إجرامية للاتجار في المخدّرات مثلاً، أو اختطاف الأطفال، لكن هذه المرة الأولى التي أسمع فيها عن الاتهام بتشكيل «خلية إعلامية»، وهي واحدة من اتهامات كثيرة جرى استدعاؤها من قانون العقوبات المصري، الذي وُضع قبل مئة عام، ولهذا نرى فيه جرائم مُبهجة، كتهمة الصياح مثلاً!.
ما علينا، فبعد أربع سنوات من وقوع الانقلاب العسكري في مصر، عندما تظل سلطات الضبط والتحريات، تنظر إلى تنظيم الإخوان على أنه «جراب الحاوي» الذي يحتوي على الكثير من المفاجآت، فإننا نكون أمام أداء ارتجالي، فقد كان من عيوب الثورة، أنها كشفت تنظيم الإخوان للأجهزة الأمنية، فلم يعد العنصر الإخواني الذي تتعرّف عليه، بإعلانه أنه ليس إخوانياً، ولكنه يحبّهم في الله، فبعد الثورة، كان يرى الكثيرون أن الانتساب للتنظيم شرف فأظهروا هويتهم، ما كشفهم لأجهزة الأمن، ومن غير الإخوان من ادعوا عضويتهم في الجماعة، وعند كل نقد كنت أوجّهه لهم، كان هناك شخص بعينه، يدخل معقّباً بأن معركتي معهم راجعة إلى أنهم ضنوا علي بعضوية البرلمان، وعندما سألته إلى من تعود (معهم) هذه، وأنا لا أعرفه، فقال إنه من الإخوان، وقد سألت عنه من يعرفه إن كان من الإخوان فعلاً؟، فنفى ذلك تماماً!.
بعد الانقلاب كنت حريصاً أن أطالع صفحته، لكي أرى انحيازاته بعد أن وقعت الفأس في الرأس، فوجدته يكتب أدعية ومأثورات، ولم يخطئ مرة، ويكتب كلمة دفاعاً عن الإخوان، أو نقداً لسلطة الانقلاب!.
ما أريد قوله، أنه لم يعد بالثورة هناك من يكتم إخوانيته، فعندما تأتي الأجهزة الأمنية لتصنّف الصحفيين «أحمد عبد العزيز»، و»حسام السويفي» بأنهما من الإخوان، فمن حقنا إزاء هذا الأداء البدائي، الذي ينتمي إلى زمن «المخبر» الذي يتابع الفريسة من «جرنال مثقوب» في الأفلام القديمة، أن نقول إن مصر محمية بأولياء الله الصالحين، لاسيما أن الزميلين ليسا «نكرة»، فلهما حضور نقابي، ونقابة الصحفيين شأن النقابات والأحزاب والتنظيمات الأخرى تحت المتابعة الأمنية، وبالتالي فإن انحيازات الزميلين السياسية لابد وأن تكون معروفة لأجهزة الضبط والتحريات!.
أعرف «أحمد عبد العزيز»، منذ سنوت خلت، وقد بدأ حياته المهنية في مجلة «الموقف العربي» المملوكة للراحل عبد العظيم مناف، وهو أحد أقطاب الناصريين، وتخرّج في معظم إصداراتها الصحفية معظم الجيل التالي من الصحفيين الناصريين، مثل «عبد الله السناوي»، و»محمد حماد»، و»عبد الحليم قنديل»، وربما كانت لأحمد سابقة عمل في جريدة «العربي» التي تصدر عن الحزب الناصري، وإذا كانت بعض الصحف تتحمّل أن يعمل بها أصحاب التوجهات السياسية المختلفة، لاسيما الصحف الليبرالية، فإن الصحافة المُنحازة للأفكار الراديكالية، مثل صحف اليسار والإسلاميين لا تتحمّل ذلك.
لقد كان «عبد العزيز» منغمساً في الملف الحقوقي بنقابة الصحفيين، وكان له حضور بارز في قضايا المعتقلين من زملائه الصحفيين الذين ينتمون للإخوان وغيرهم، بعد الانقلاب العسكري، دون أن يعني هذا أنه من الإخوان، والقائمة طويلة، من صحفيين يساريين شاركوا في وقفات أسر المعتقلين من الصحفيين بالنقابة، مثل أبو المعاطي السندوبي، وهشام فؤاد، وغيرهما.
أما زميلنا «حسام السويفي»، فهو يقف على الجبهة المُعارضة للإخوان، وحضوره في المظاهرات المناوئة لحكم الإخوان، مسجّل بالصوت والصورة، وكان من بين الذين اتهموا الجماعة بالمسؤولية عن مقتل الصحفي «الحسيني أبو ضيف» في مظاهرات الاتحادية الشهيرة، وقد نشرت له مؤخراً صور في هذه الفترة وهو يرفع حذاءه ضد ما أسماه بحكم المرشد!.
وعندما يتم اعتقال الزميلين، بتهمة الانتماء للإخوان، فإننا ندرك ساعتها أننا أمام سُلطة فاقدة للرشد، وتفتقد للعقل، على نحو يجعل من القصة التي كان لا يمل «مصطفى أمين» من كتابتها، هي صفر على الشمال بجانب ما يحدث الآن!.
لا بأس فدعاية الحكم العسكري كانت تقوم على أن «أوباما» عضو في التنظيم الدولي للإخوان المسلمين!.
أضف تعليقك