أخيرًا؛ فعلها ترمب، خلافا لكل أسلافه، واعترف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني، وهذا يؤكد أن الجنون جندي من جنود الله، وأن وضوح هذا الكائن أفضل من مداهنة الآخرين.
ما جرى لا يعدو أن يكون خطوة رمزية لا تغير في حقيقة الواقع شيئا، فالصهاينة لم يكونوا في أي يوم على استعداد للتنازل عن القدس، وهم يرددون دائما مقولة بن غوريون: «لا معنى لإسرائيل بدون القدس، ولا معنى للقدس بدون الهيكل»، والأمريكيون لم يكونوا يوما مع إعادة القدس للشعب الفلسطيني، لأنهم دائما مع الكيان الصهيوني، على خلاف في التفاصيل.
من لديه شك في ذلك، فعليه استعادة سيرة المفاوضات طوال عقود، قبل كامب ديفيد؛ صيف العام 2000 وبعدها. ففي كامب ديفيد كانت قضية القدس الشرقية والمسجد الأقصى هي التي أفشلت المفاوضات. وفي المفاوضات مع أولمرت وليفني في العهد التالي، حدث ذات الشيء. وللتذكير فقط، حين قال صائب عريقات في إحدى جولات التفاوض التي كُشفت وثائقها لاحقا لليفني: «اليوم أعرض عليك أكبر أورشليم في تاريخ الشعب اليهودي»، ردت عليه بصلف قائلة إن القدس خارج دائرة التفاوض.
الأكثر أهمية في خطوة ترامب الجديدة، هو أنها تأتي ونحن نواجه المؤامرة الأخطر لتصفية القضية الفلسطينية، عبر ما يسمى «صفقة القرن»، أو الحل الإقليمي»، وهي في الأصل لا تتعامل أبدا مع قضية القدس، إذ تتركها بعيدا من دون القول إنها خارج دائرة التفاوض، ولكن الجميع يعلم أن جوهر ذلك الحل هو تحويل المؤقت إلى دائم بمرور الوقت، أي تحويل النزاع إلى مجرد نزاع حدودي، أو ربط سكان الضفة بالأردن (تكريس عملي لمؤامرة الوطن البديل) بعد تطبيع واسع من قبل الدول العربية والإسلامية مع الكيان، فضلا عن استمرار النزاع القائم، الذي يجعل دولة الاحتلال هي الوحيدة المتماسكة في محيط مشتعل، ويخطب الجميع ودها.
من هنا كان الخلاف كبيرا في الأوساط الصهيونية حول جدوى الخطوة الجديدة، ليس فقط لجهة الخشية من انفجار الوضع في الساحة الفلسطينية، بل أيضا لجهة تخريب أجواء «صفقة القرن»، وإحراج العرب الذين يقبلونها أو يروجونها، أو يضغطون من أجل تمريرها. لكن النتيجة أن أزمة نتنياهو بملفات الفساد التي تلاحقه، وأزمات ترامب الداخلية مع الدولة العميقة، وحاجته لدعم اليمين الصهيوني واليمين المسيحي أيضا، هي التي تسببت في هذه الخطوة.
لكن السؤال الكبير الأول الذي يواجهنا الآن هو المتعلق بردة الفعل العربية الرسمية على الموقف الجديد، ثم الأهم ممثلا بموقف القيادة الفلسطينية. على الصعيد الأول، ليست لدينا ثقة كبيرة في الموقف الرسمي العربي، لكنا نأمل أن يتخذ موقفا مختلفا بسحب المبادرة العربية من التداول، وإذا لم يفعل، فعلى الذين سيواصلون التعاون مع ترامب في خطته للتسوية والحل، أن يواجهوا غضب شعوبهم وغضب جماهير الأمة التي لن تقبل ذلك، وهي لم تكن لتقبله، حتى من دون الخطوة الجديدة. أما موقف السلطة فهو الأهم، إذ آن أوان إعلانها فشل المسار الذي اختطته منذ العام 2004 ولغاية الآن، ممثلا في التعاون الأمني وتكريس سلطة في خدمة الاحتلال، مع التعويل على التفاوض والضغط الدولي، ولا بد من توافق
فلسطيني شامل على انتفاضة في مواجهة الاحتلال، تجعله مكلفا، مع تأكيد المصالحة وجعل السلطة كيانا إدرايا يُدار بالتوافق، بينما يتوحد الجميع في ميدان المقاومة. من دون ذلك سيتواصل التيه، لكن خروجنا من هذه المعركة، بشطب خطة ترامب، وتجاوز مخاطر تصفية القضية، يعد أمراً بالغ الأهمية، وإن كان الأمل أن نخرج باستراتيجية جديدة للمواجهة تخرج القضية من حالة التيه التي تعيش فيها منذ 2004، بل ربما منذ أوسلو 1993.
أضف تعليقك