أهال ترمب التراب على نهج التسوية السياسية، وتحدث عن "مقاربات جديدة" بعد "افتراضات خاطئة واستراتيجيات فاشلة في السابق". وإذ أعلن بهذه الرعونة عن "نهج جديد"، فما خرج به ترمب في "صفعة الأربعاء" يتجاوز نقل سفارته أو اعتبار القدس عاصمة لكيان الاحتلال، بكل ما في هذا من صلف وغطرسة وعدوان لم يجرؤ عليه أسلافه في المنصب.
ظهر الرئيس الأمريكي معلنا بوضوح عن تخلِّي إدارته عن خيار "الدولتين"، وإنْ بأسلوب غير مباشر، بقوله: "سأدعم حل الدولتين إذا ما قرر الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي التمسك به"، ومعلوم أنّ نتنياهو لم يتفوَّه بخيار "الدولتين" إلا بشكل لفظي مرة يتيمة في عهد أوباما، تحت ضغط أمريكي ودولي آنذاك، ويعلم ترمب ذلك جيدا.
إنه ليس موقفا آنيّا عابرا من سيد البيت الأبيض، فقد عبّر من قبل عن نزعة التنصّل الشكلي هذه التي تعني ترك الفريسة تستجدي قطيع الذئاب، وكان هذا تحديدا لدى استقبال نتنياهو في البيت الأبيض للمرة الأولى بعد تولي ترمب منصبه.
كان واضحا على أي حال أنّ مجرد التسليم بالقدس لكيان الاحتلال إنما يقضي على وعود التسوية ويحسم نتيجتها بصفر فلسطيني كببر لصالح الاحتلال حتى قبل الشروع في أي تفاوض، كما تجعل هذه الخطوة من الحديث على أي دور أمريكي في رعاية المفاوضات نكتة كبرى تفوق سابقاتها.
المغزى الآن: لا مفاوضات حقيقية أو شكلية بعد اليوم، أو لا معنى لها سوى استجداء وضعية روابط القرى (مشروع الاحتلال البديل لتصفية القضية الفلسطينية قبل أقل من أربعة عقود) أو جيش لحد (ما كان يسمى "جيش لبنان الجنوبي" الذي أنشأه الاحتلال بزعامة أنطوان لحد). وثمة مقدِّمات لهذا الخيار البائس المقيت يمكن البناء عليها تأسيسا على عقيدة "التنسيق الأمني" التي تقدِّسها الرسمية الفلسطينية بمنطوق القول؛ على الأقل وفق التصريح الشهير لمحمود عباس.
لا فرصة لعباس للفكاك من الخيار اللحدي، سوى قلب الطاولة ببساطة، بإحداث فراغ سلطوي عاجل، بأن يستقيل هو وفريق السلطة بشكل فوري ونهائي وجادّ ويغادروا البلاد، بدل إدارة الخد الأيسر لصفعة جديدة آتية لا محالة، وليتحمّل ترمب المسؤولية أمام العالم عما صنعه.
سيكون خيار "قلب الطاولة" هو الالتزام الفلسطيني المنطقي بمقولة "ضبط النفس" الذي طالب به ترمب في خطابه بعد أن صفع الرسمية الفلسطينية والعواصم العربية والإسلامية بإعلانه عن خطواته المشينة بشأن القدس.
لا ترغب الرسمية الفلسطينية بمقاومة، ولا تروق لها انتفاضة أيضا، ومن الواضح أنها تتحاشى الوصول إلى مشهد حصار المقاطعة بدبابات الاحتلال أو الاغتيال بسمّ لن تكشفه تحقيقات متراخية. فما يكون من خيار لها سوى قلب الطاولة دون أن تُحمّل عواقب ذلك. أما الشعب الفلسطيني فسيُرِي -وقتها- ترمب والعالم أجمع لمن هي القدس تحديدا، وهذا على طريقته الخاصة.
لا وقت أمام فريق رام الله للذهول والانتظار وبيع الوهم، بعد أن أعلن ترمب عن "نهج جديد" بشأن فلسطين والتسوية التي عدّها استراتيجيات فاشلة. فقد وضع ترمب القضية في مربّعها الأول تقريبا، وأعاد تصفير عداد التسوية.
النتيجة هي أنّ الولايات المتحدة قررت منح قيادة الاحتلال ضوءًا أخضر ليذهب بعيدا في مشروعه، وتم نزع الغطاء السياسي عن أي تسوية متصوّرة.
انتهت اللعبة ببساطة، وهذا ما أراد ترمب قوله على الأرجح. وما كان ليقول ما قاله لولا تواطؤات عربية ثقيلة معه بانت مقدِّماتها وفاحت رائحتها. إنه حلف الهوان العربي الذي أغرق شعوبه بحبوب منوِّمة، ويخشى يقظتها على نداءات القدس.
أضف تعليقك