بنى الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، برنامجه الانتخابي على وعد بنقل سفارة الولايات المتحدة الأميركية إلى القدس المحتلة، حال نجاحه. وعلى الرغم من ذلك، تسابق حكام العرب هرولةً إلى دعمه، بل إنه مع إعلان فوزه، عمّت الأفراح عواصم ما كان يعرف باسم "محور الاعتدال العربي" الذي تطور وتحوّر فيما بعد، وصار يعرف بعرب اعتدال، أو عرب إيفانكا، أو بعبارة واحدة "عرب إسرائيل".
بعد فوزه، انهالت الهدايا والمكافآت، من هذا المحور البائس، على ترامب، واصطفوا حوله، يطلبون الشفاعة، ويبدون الطاعة، وينفذون أوامره قدر الاستطاعة، ومن ثم لا تغرّنكم حالة الصدمة المصطنعة التي تظهر في بيانات شجب واستنكار، فهي جزءٌ من اللعبة، أو الصفقة: أنا أعلن قرار يهودية القدس، وأنتم تعلنون الإدانة والتحذير. وهو ما فضحته الميديا الصهيونية بإذاعتها تأكيداتٍ بأن تفاهماً جرى بين الرئيس الأميركي وتابعيه من الحكام العرب، في اتصال أخير، كان بمثابة وضع اللمسات الأخيرة في الإخراج، تماماً مثلما يحدث في ترتيبات ما قبل انطلاق حفلات الزفاف، أو مواكب الجنازات.
لا يقل الدور الرسمي العربي في إعلان الاعتراف الأميركي بالقدس، عاصمة للاحتلال الصهيوني، عن دور ترامب، بل ربما يسبقه، بالنظر إلى أن وزير خارجية مصر، أكبر دولة عربية، وصاحبة الحروب الثلاث ضد إسرائيل، سبق الرئيس الأميركي الوقح في الاعتراف، بشكل عملي، بالقدس عاصمة للصهاينة، حين هرول إلى منزل رئيس حكومة الكيان الصهيوني، في القدس المحتلة، ليتناول العشاء، ويقضي السهرة مع نتنياهو وزوجته، متفرّجاً على نهائي كأس أمم أوروبا في صيف العام الماضي.
كانت فضيحة التخلي عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، تنفيذاً للرغبة الإسرائيلية، هي الدرس الافتتاحي الأول في تهيئة المجتمع المصري للتعاطي الإيجابي مع مبدأ عدم قدسية الأرض، وتدريب الأذن وتجهيز المزاج لفكرة التنازل عن التراب الوطني، إذا اقتضت "المصلحة العليا" التي هي بالضرورة مصلحة أصحاب المقام السامي، رؤساء وملوكاً، ومن ثم لا غضاضة في تبادلها، بالبيع والإهداء والعوض، وصولا إلى اللحظة القدس.
بالتوازي مع ذلك، كانت عملية هدم المعنى، وإحراق القيمة التاريخية والثقافية والدينية للمقدس، فكانت ميليشيات الثقافة في نظام عبد الفتاح السيسي، بقيادة يوسف زيدان، تتولى عملية تهويد المسجد الأقصى والقدس المحتلة داخل الوجدان الشعبي، بادّعاء أن لا وجود للمسجد الأقصى في القدس، ومن ثم لا قداسة للمدينة المعلقة على صليب التنازلات والتفريط، فيما كانت المجامع الفقهية في مصر والسعودية تنشط في نزع تصنيف "العدو" عن إسرائيل، وتلصقه بإيران والإخوان المسلمين وحزب الله وفصائل المقاومة الفلسطينية، حتى انتهى بنا الأمر بعائلة ترامب تطير من السعودية إلى حائط المبكى، مباشرة، وفوق رؤوسها طاقية الحاخامات، وفي حقائبها 460 مليار دولار، عربون صفقة القرن، ثم جاءت اللحظة التي يتجوّل فيها صحافي صهيوني في المسجد النبوي في المدينة المنورة، ويلتقط الصور التذكارية بالزي السعودي.
كان المخطط يقوم على إخراج الشعوب العربية من معادلات السياسة والتاريخ والجغرافيا بالقمع والإرهاب والتخويف والإقصاء، فلا تقوى على الهتاف للقدس، ولا يسمح لها بالتظاهر والغضب من أجلها، تنفيذاً للرغبة الصهيونية التي عبر عنها بنيامين نتنياهو، بكل الوضوح، حين قال إن الرأي العام العربي هو العقبة في طريق التطبيع.
ومع الإعلان عن اعتزام ترامب اتخاذ القرار، قرّر "عرب ترامب" توجيه رسالةٍ شديدة الوضوح بخفض مستوى تمثيلهم، على نحو مهين، في القمة الخليجية في الكويت، ثم بعد صدور القرار الأميركي، وجهوا رسالة أشد وضوحاً وبلاغةً، بالإعلان عن مقاطعة كأس الخليج لكرة القدم في الدوحة، وليس ذلك نكايةً في الدوحة، بقدر ما هو خطاب طمأنة لترامب وإسرائيل، من خلال إبلاغ العالم بأنه لا توجد أمة عربية ولا موقف، أو عمل عربي مشترك، لا مؤسسة جامعة عربية، تتداعى لعقد قمة تتخذ موقفاً ضد عدوان ترامب، ولا حتى مجلس خليجي موحد.
ارتباطاً بذلك، يأتي ما كشف عنه مصدر أميركي لمراسل "العربي الجديد" في القاهرة أن السيسي لم يعترض على القرار، وإنما توقيته، طالباً الإرجاء "حتى لا تستخدمه جماعات الإسلام المتشدّد"، وتلك هي الخلاصة: العدو ليس إسرائيل، بل ذلك الإسلام الذي يراه السيسي ورعاته متشدداً.
وربما لن يمر وقت طويل ليقول لك بعضهم: القدس أصلاً إخوان... ما لنا دخل!
ولم لا، فقد فعلوها سابقاً مع غزة.
••••
كتب نزار قباني في أجواء "كامب ديفيد" في 1978:
سرقوا منا الزمان العربي
أطفأوا الجمر الذي يحرق صدر البدوي
علقوا لافتة البيع على كل الجبال
سلموا الحنطة.. و الزيتون.. والليل..
وعطر البرتقال..
فماذا يمكن أن يقول الآن
أضف تعليقك