أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب؛ نيته نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وأبلغ كلا من الرئيس الفلسطيني محمود عباس والعاهل الأردني بذلك، متجاهلا اعتراضاتهما على القرار؛ وتداعياته على عملية السلام وعلى المنطقة بأسرها.
قد لا يشكل هذا القرار تغييرا على الأرض، إلا أنه يشكل تغييرا مهما في السياسة الأمريكية التي حرصت على الحفاظ على الوضع القائم في القدس والضفة الغربية، وعدم الاعتراف بضم القدس الشرقية لإسرائيل ولا بالمستوطنات التي تقام في الضفة الغربية.
ويأتي هذا القرار ضمن الخطوات المتسرعة والمثيرة للجدل التي اتخذها ترامب منذ توليه رئاسة الولايات المتحدة. وربما يكون هذا القرار من أخطر قراراته التي اتخذها خلال الأشهر الماضية، والتي قد تهدد استقرار المنطقة والعالم.
ضربة قاصمة للتسوية السياسية
وبصرف النظر عن التوقيت المحتمل لنقل السفارة، فإن إعلان إدارة ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل يشكل خطوة أخطر من مجرد نقل السفارة، إذ إنه يدق مسمارا، ربما يكون أخيرا، في نعش التسوية السياسية، ويدفع الدول العربية والسلطة الفلسطينية، التي عولت على التسوية السياسية للوصول إلى دولة فلسطينية عاصمتها القدس، إلى الاقتناع بأن هذه العملية أصبحت جثة نتنة وقد آن أوان دفنها!
لقد جاءت خطوة ترامب لتفرغ عملية السلام من مضمونها، خصوصا مع اقتران ذلك باستمرار الاستيطان في الضفة والقدس، فضلا عن تجهيز مشاريع لتوطين الفلسطينيين في أماكن سكناهم أو تعويضهم كبديل عن عودتهم إلى مساكنهم التي هجروا منها.
ويشكل ذلك ذروة الاستهتار بالموقف العربي المشرذم والمشتت، والذي أظهرت أزمة الخليج الأخيرة أنه أوهن من بيت العنكبوت، ويخضع لأهواء شخصية، وكأن الزعماء العرب مصممون على هدم كل عوامل القوة في الموقف العربي، أو ما تبقى من قوة في هذا الموقف.
لا نستطيع أن نجزم بتواطؤ بعض الأنظمة في هذا القرار، ولكن على الأقل؛ فإن ضعف الموقف العربي أغرى إسرائيل لدفع الموقف نحو هذه الهاوية.
الملفت للانتباه، أن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان الذي استدعى الرئيس الفلسطيني محمود عباس على وجه السرعة إلى الرياض؛ قد أبلغه أن عليه أن يوافق على أن تكون أبوديس في ضواحي القدس عاصمة لما يسمى الدولة الفلسطينية، وذلك وفق تسريبات عديدة لما دار في هذا اللقاء. وهذا يعني ضمنا الموافقة على ضم القدس لإسرائيل!
وبطبيعة الحال، فإن عباس لا يمكن أن يقدم على هذه الخطوة؛ لأنها ستشكل نهايته سياسيا وشعبيا، فضلا عن الفيتو الأردني على ذلك؛ لأنه يوجه ضربة قاصمة للولاية الدينية للأردن على الأماكن المقدسة في القدس، وفقا لاتفاقية السلام مع إسرائيل عام 1994. وهذا ما حذر منه مسؤول أردني سابقا!
وفوق هذا، فإنه يجري إضعاف المقاومة الفلسطينية عبر حصارها سياسيا واقتصاديا للقضاء على أية معارضة فلسطينية لتصفية القضية. ومن المعلوم أن الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات دفع حياته ثمنا لرفضه التخلي عن القدس!
التطبيع في مهب الريح!
غير أن ما لم يحسب له ترامب حسابا، أن هذا التسرع في القرار سيوجه ضربة لعملية التطبيع التي بدأت بعض الدول العربية بالترويج لها ضمن عملية السلام الإقليمي التي يسوق لها نتنياهو وحكومته، والتي تفصل هذا المسار (التطبيع) عن المفاوضات التي ستجري بين إسرائيل والسلطة لإنجاز التسوية السياسية.
ومما لا شك فيه، أن إسرائيل لا تستطيع الاستمرار في التعامل مع محيط عربي معادي لها، ولا بد لها أن تسير بعملية التطبيع كنتيجة لاتصالات عدد من زعماء الدول العربية بها واستعداهم للدخول في حلف إسرائيلي معاد لإيران، وهذا يتطلب بطبيعة الحال تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني.
يعتبر القرار فرصة للقوى السياسية المعارضة في العالم العربي، وللكل الفلسطيني، للتصعيد لوقف عملية التسوية مع إسرائيل
وقد جاهر نتنياهو مرارا بتطور علاقات كيانه مع بعض الدول العربية مبشرا بعملية تطبيع قادمة، ولكن كيف يمكن أن تتم هذه العملية في أجواء مسمومة تثير المحيط العربي والإسلامي وتعزز عداوته للكيان الغاصب؟!
ويعتبر القرار فرصة للقوى السياسية المعارضة في العالم العربي، وللكل الفلسطيني، للتصعيد لوقف عملية التسوية مع إسرائيل، وهذه سيشكل حائط صد ضد أي دولة عربية تريد التطبيع مع إسرائيل، الأمر الذي يجعل هذه العملية في مهب الريح.
وسيثير هذا القرار ردود فعل غاضبة في المنطقة، وقد يعطي وقودا لقوى التغيير في العالم العربي (والتي تآمرت الدول المضادة للربيع العربي عليها) لكي تعيد الكرة في ثوراتها، خصوصا مع نضوج الأرضية في بلدانها لعملية التغيير.
تهجير جديد وحراك مقاوم
لقد أصبحت الدول العربية والسلطة الفلسطينية في موقف محرج أمام شعوبها؛ لأنها إن قبلت أو سكتت عن خطوة ترامب ستوصم بالخيانة، خصوصا مع تعثر التسوية السياسية على الأرض، وسيجعلها أقل قدرة على الاستمرار في ملاحقة تيارات الإسلام السياسي مع ترك العدو يتمدد على الأرض!
وفي ضوء ضم إسرائيل القدس الشرقية لها، فإنها ستعمل على تفريغها من سكانها الفلسطينيين، والدفع بهم نحو الهجرة للأحياء الفلسطينية الملاصقة للقدس، كأبو ديس والعيزرية وغيرهما.
وفي المقابل، سيعزز ذلك دافعية الفلسطينيين في القدس للدفاع عن مقدساتهم، حيث ستكثر الهبات لنصرة القدس، وربما ستتطور الانتفاضة في القدس نحو المزيد من الفعل ضد الاحتلال.
وهنا أيضا تأتي أهمية حركات المقاومة في التحشيد ضد العدو وممارسة الفعل المقاوم ضده.
والخلاصة، أن خطوة ترامب، وإن بدت مكسبا لإسرائيل، فإنها ستعزز العمل المقاوم في القدس، وستكون هذه المقاومة مصدر إشعاع وتحفيز للقوى الحية في الأمة لتقوم بدوها في التغيير؛ مؤذنة بموجة جديدة للثورات العربية تكون أشد بأسا وأكثر نضوجا من سابقاتها.
أضف تعليقك