• الصلاة القادمة

    العصر 13:46

 
news Image
منذ ثانية واحدة

ليس معروفًا بعد المدى الذي وصل إليه اعتناق فكرة التطبيع مع الاحتلال داخل المجتمع السعودي، في ظل صمت الأصوات المنكرة إياه، باستثناء النخب السعودية التي تقيم خارج المملكة، غير أن تمكّن سلطتها من حشد تلك الجيوش الالكترونية لتسويق الفكرة أو تجميل قبحها؛ لم يكن ناشئا من فراغ، ويعكس توجها لفئة موجودة على الأرض تنتظر مدّ جسور المودة والتعايش بينها وبين كيان الاحتلال الصهيوني. وإن كان لنا أن نجزم بأن هذه الفئة لا تمثل غالبية المجتمع السعودي، فليس لنا أن نتجاهل أنها الفئة المتحكمة بشؤون البلد، سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا وإعلاميًا.

كذلك، ليس معروفًا بعد الحدّ الذي تطمح السلطة السعودية في وصوله عبر تطبيعها المنتظر مع كيان الاحتلال. ولعلّ هذا بات تفصيلًا جانبيًا مقابل حالة الانهيار القيمية التي تشهدها أروقة الحكم والسياسة والإعلام هناك، ذلك أن التطبيع القديم والتقليدي مع الاحتلال، الذي تمثل في إقامة علاقات دبلوماسية بينه وبين كل من مصر والأردن، ظل محلّ إدانة واستهجان النخب الفكرية والسياسية، إلى جانب الرفض الشعبي العلني له في البلدين، ولم يكن النظام الرسمي فيهما ونخبه الإعلامية يجرؤون على تهشيم ثوابت الرأي العام، أو مهاجمة الحق الفلسطيني، أو التغزل العلني بالاحتلال كما تفعل الآن الأبواق المحسوبة على السلطة السعودية، بل ظل ذلك التطبيع منبوذا، وتتعاطى معه الأنظمة على استحياء أمام الجماهير.

لكن ما يجري اليوم في السعودية مختلف تمامًا، حيث تندفع أبواق التطبيع لتعبر عن أفكارها بكل صفاقة ووقاحة، متعمدة صدم الوعي العربي والمسلم، واستنفار مشاعر الفلسطينيين والعرب، والسخرية من القضية الفلسطينية وحقوق أهلها، وصولا إلى امتهان المقدسات، وتقرير أن الرياض أهم من القدس - على سبيل المثال - وأن السعودي ليس ملزما بالاستمرار في الدفاع عن قضية تخلى أهلها عنها. وليس خافيا ما يستبطنه هذا الخطاب من عنصرية وعنجهية وإشاعة للفتن والأحقاد بين الشعوب، ولا ما يتضمنه من مخاتلة تحاول تأكيد فرية اهتمام آل سعود بقضية فلسطين؛ لأنك حين تتبنى موقفا جديدا تعلن فيه انسحابك من تأييد قضية ما، فهذا سيعني أنك كنت في السابق مدافعا عنها ومتبنيا إياها، فيما الحال أن السلطة السعودية لم تكن أبدا منحازة للقضية الفلسطينية أو منافحة عن مقدساتها، باستثناء ما كانت تقدمه من فتات موائدها لمنظمة التحرير ثم للسلطة الفلسطينية، وهو دعم لا يوازي المليارات التي تبذلها السعودية لدعم تيارات وأنظمة وقضايا أخرى في العالم، أو لتمويل ما يُسمى بالحرب على الإرهاب، وهي حرب سبق أن أفضت إلى احتلال أمريكا للعراق، ثم لتخريب الثورات العربية كافة.

وبطبيعة الحال، لم يكن ممكنا النجاح في تسويق فكرة التطبيع وجعلها مستساغة إلا عبر الاستثمار في الكذب، وإطلاق كم كبير من الافتراءات حول القضية الفلسطينية وأهلها؛ لأن استعداء الرأي العام الداخلي ضد شعب آخر مقدمةٌ لحمله على استشعار الودّ لعدوّه، وتسويغ التقارب معه، من باب أن "عدوّ عدوي صديقي"، وهذا أمر ليس جديدا على سياسات المملكة بطبيعة الحال. فقد رأيناه في حصار قطر الذي تأسس على أكذوبة مفضوحة بعد اختراق موقع وكالة الأنباء القطرية، وكل ما تلا ذلك من افتعال للأحقاد والعداوات والمعارك لم يكن يجد مبررا منطقيا؛ لولا تدعيمه بالأكاذيب المتتابعة التي تحولت بعد فترة وجيزة إلى ما يشبه الحقائق القاطعة لدى المنساقين خلف رواية دول الحصار.

تكاد هذه الصفاقة في الترويج للتطبيع تكون مرآة للسياسات السعودية بعمومها، ولجوانب الطيش التي تلمّ بأميرها الشاب الصاعد للملك، والمعتقد بأن سرعة وصوله لمأربه تتناسب طرديا مع شدة فتكه بالثوابت والقيم، الدينية منها والسياسية. غير أن هذه الصفاقة منبعها، من جانب آخر، عنجهية تأسست على الاعتقاد بأن الثراء والإنفاق من الثروة العامة على بعض الشعوب والقضايا؛ يغطي بالضرورة على عيوب أخرى، ويمنح آل سعود وأبواقهم الحق في المنّ على كل الشعوب بهذه العطايا، فعلية كانت أم وهمية. وليس مهما هنا أن تبطل السلطة السعودية صدقاتها بالمن والأذى، بل أن تعتقد أنها تمنحها الحق بالتعالي على غيرها من شعوب وبلاد.

يضاف إلى ذلك كلّه؛ استغلال آل سعود لعاطفة المسلمين تجاه بلاد الحرمين، واعتقادهم بأن هذه العاطفة تنسحب على حكام البلاد بالضرورة وتتجاوز سريعا عن خطاياهم، لا سيما وأن كثيرين لا يفرقون بين البلاد والسلطة الحاكمة فيها، تأثرا بخطاب الرموز الدينية المحسوبة على آل سعود، خصوصا حين تكرّس خطب الجمعة والحج في مكة المكرمة للحض على طاعة الحكام أو التقرب إلى الله بالدعاء لهم، كما قال خطيب يوم عرفة في مكة المكرمة قبل بضعة أشهر.

ورغم أن الخطاب الرسمي السعودي لم يفصح عن مكنوناته بشكل واضح مكتفيا بالإشارة إلى أن التطبيع سيكون تاليا لحل "النزاع" بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لكنّ بلدا يُعتقل فيه من يصمت ومن يمتنع عن التصفيق لسياسات حكامه لا يمكن أن يتيح هذا القدر من حرية الرأي المتعلق بالتطبيع، أو حرية الطيش والسّفه، إلا بعد أخذ المباركة والتشجيع من "ولاة الأمر".

أضف تعليقك