ثورة يناير المصرية مهزومة ومكسورة إلى حد مؤلم، هذا واقعٌ لا يجادل فيه أحد. لكن، من قال إن على من تنكسر أن تسلم نفسها لأول عابر سبيل، أو قاطع طريق، أو أحمد شفيق؟ من يقبل أن تكون معالجة الهزيمة بمزيد من الانهزام، وجبر الكسر بمزيد من الانكسار؟
مرة أخرى: من حق أي أحد أن يتعاطف أو يتضامن مع المواطن أحمد شفيق، ضد ما يتعرّض له من إهانةٍ وتنكيل، بحسب ما يظهر لنا من الرواية، غير أن هذا لا ينبغي أن يتحوّل إلى استثمار سياسي يمنح شفيق جدارةً سياسية، ويسبغ عليه أدواراً بطولية في هذا المسرح الإغريقي المنصوب في مصر منذ أيام.
في هذه المتاهة، تنهض مجموعة من الأسئلة، تتعلق بالمقدّمات والنتائج، أولها: هل أحمد شفيق مرشح للانتخابات الرئاسية حقاً؟ سنسلم جدلاً بأنه كذلك، وهنا تثور أسئلة أخرى: هل يستقيم عقلاً أن يعلن أحد عزمه منازلة رجل الإمارات من قلب الإمارات؟ هل كان شفيق، والذين معه، يتوقعون أن من الممكن أن يكشف نيته تحدّي عبد الفتاح السيسي، الشخص الذي أنفقت الإمارات كل هذه المليارات لوضعه في السلطة، ثم يخرج منها سالماً تحفّه الدعوات بالتوفيق، وتحيطه الوعود بالدعم والمساندة؟
تقول ألف باء السياسة إن إفصاح أحمد شفيق عن اعتزامه خوض انتخابات رئاسية مفترضة ضد السيسي، من مخبئه في الإمارات، ينسف أي جديةٍ في نزول هذا المضمار، ويؤشّر إلى عدم كفاءةٍ في ممارسة اللعبة السياسية والانتخابية، خصوصاً وأن القاصي والداني يعلم أنه تم إيداع شفيق في خزينة أبو ظبي بمعرفة المجلس العسكري المتحكم في مصر، ومن ثم يستطيع المودع أن يطلب سحب وديعته، وقتما أراد، وهذا ما حدث، ولم يكن من الممكن توقع أو تصور غيره.
تكفي هذه الفرضية، وحدها، دليلاً على أننا أمام رجل، أو مشروع، تغيب عنه الحنكة، ويفتقر إلى التكتيكات والمهارات التي تؤهله لخوض صراع، ومن ثم، ومع خالص التقدير لمن يعتبرونه المخرج والبديل وطوق النحاة، ليس هناك ما يؤكد أننا بصدد شخصٍ يمتلك أدوات الإدارة وفنون السياسة.
وبالنظر إلى محصلة هذه الزوبعة الشفيقية، النتيجة الوحيدة لكل ما جرى، أن أطراف اللعبة نجحت في فرض الانتخابات الرئاسية ميدانا وحيدا للاشتباك والجدل، وتحول النقاش من مقاطعة هذه الملهاة الانتخابية، إلى الشجار بشأن أفضل المرشحين العسكريين لحكم البلاد، لتسقط من جدول الهموم قضايا الحريات والمعتقلين والمختفين قسرياً، ويتراجع الكلام عن كوارث الاقتصاد والسياسة، ويصبح الحديث عن رئيس جمهوريةٍ منتخب، مختطفٍ في زنزانةٍ يوشك أن يفقد حياته وبصره داخلها، نوعاً من الترف، يعرض صاحبه لموجاتٍ من السخرية، والاستهزاء والاتهام بالانفصال عن الواقع والتعلق بالأوهام.
في السياق أيضاً، تأتي فقرة ضابط الجيش، الخطيب المفوّه الذي يخطف الأنظار والعقول بكلامٍ مرتب ومنمق، وهو يعلن دخول السباق بأزيائه العسكرية، ثم تعلن السلطات، عبر اختيار متحدثين بعينهم، لديهم القدرة على الظهور على منابر إعلامية واسعة الانتشار، مثل قناة الجزيرة، ليزفّوا إلى الأمة خبر القبض عليه وحبسه.
باختصار، أراد رعاة سلطة عبد الفتاح السيسي، في الخارج والداخل، أن يثبتوا في اعتقاد الجماهير أنه لا قبل لأحدٍ بمواجهة عبد الفتاح السيسي، فها هو الذي توهمتموه بديلاً مخيفاً، ومرعباً للنظام، يتحوّل مادة مسلية ومضحكة، كما أن الذين يفترض أنهم أهل ثورة يناير لم يعد أحد منهم يذكر الحراك أو الغضب، أو يجنح إلى المقاومة، بعد أن مالوا جميعاً إلى الثرثرة والمفاضلة بين الفريق والعقيد، بما يفضي، في النهاية، إلى التسليم بخروج فكرة الثورة من معادلات الفترة المقبلة.
وفي هذا المناخ العبثي، تزداد اشتعالاً وصخباً ما وصفت سابقاً عمليات فبركة البدائل، وتجارتها في محلات العطارة والأكشاك المتنقلة التي لا تزال تروج أوهام أن الخروج من المأساة يتوقف على مزاج أصحاب النفوذ الدولي والإقليمي، في الخارج، والصراعات المكتومة بين الأجهزة الأمنية في الداخل. ومغامرات أباطرة الأموال، وشبق المؤسسات الأمنية لافتراس السياسة، في الداخل.
مرة أخرى وعاشرة: البديل يصنع في الداخل، ولا يستورد من الخارج، لا يأتي فوق دبابة، ولا في جوفٍ كيس من الأرز، ولا يصل في حقيبة دبلوماسية، أو مرحّلاً على طائرة خاصة.
أضف تعليقك