كأننا في عرض لجنون البقر، مع أنه لم يسبق لي أن شاهدت البقر مجنونا، لكني رأيت الثور الهائج، ووقفت بالملاحظة، على أهمية اللون الأحمر لكبح جماحه، بمجرد أن توضع على عينيه قطعة من القماش بهذا اللون، ولهذا ورد في الأثر: «إذا كان حبيبك ثور.. البس له أحمر»!
كان العرض في برامج «التوك شو»، في ليلة ليلاء، أعلن فيها الفريق أحمد شفيق، عزمه خوض الانتخابات الرئاسية، وأعلن في بيان لاحق أن دولة الإمارات تمنعه من السفر، عندئذ شاهدنا هذا العرض، فلم تكن تفرق بين لميس الحديدي وبعلها، أو بين بعلها وأحمد موسى الذي التحق بهما في وقت متأخر في هذه الليلة الليلاء، ولأنه عزف واحد، فقد بدا أن شخصاً واحداً، هو الذي يقف في الكواليس، ليقوم بعملية التلقين لأبطال العرض، وفي مثل هذه القضايا، يحضر عباس كامل سكرتير عبد الفتاح السيسي، وفي الواقع أنه من يدير الحملة الصحافية ضد «شفيق» في بعض الصحف. وأحد رؤساء التحرير وهو «مناضل متقاعد»، لا يجد غضاضة في أن يراجع معه «البروفات» عبر الهاتف، أمام الجميع، وباعتبارهما يقفان على «خط النار» دفاعاً عن حياض الوطن!
«الجزيرة.. يا سيادة الفريق؟».. «قطر.. يا سيادة الفريق؟»، هذه هي النغمة المكررة في العرض سالف الذكر، الذي كانوا يؤدونه وهم في حالة صياح، وكأن الشيطان يتخبطهم من المس، أو أنهم في «دقة زار»، فقد لخصوا الأزمة في إعلان البيان عبر قناة «الجزيرة»، وفي نكران الجميل لدولة الإمارات العربية المتحدة، وباعتبار أن هذا خيانة كبرى، والخيانة هي ما رددها أنور قرقاش، في بوستاته في هذه الليلة الليلاء، وكأن المطلوب من «شفيق» أن يقبل أن يكون ورقة في أيديهم يبتزون بها السيسي، ألا وأنه قرر من تلقاء نفسه الترشح للانتخابات الرئاسية القادمة، فإنه «غدار» لم يصن العيش والملح، ويوشك أن يُنهي كل بوست من بوستاته بأغنية «يا غدار» للتونسية «لطيفة العرفاوي».
وبدت الأزمة كلها في أن الفريق «شفيق» اختار، قناة الأعداء في قطر، على نحو ينال من وطنيته، وقال أحمد موسى: قطر التي تقتلنا؟! قطر التي تمارس الإرهاب ضدنا؟! قطر التي تقل أولادنا؟! ولا نعرف ما هو الإرهاب الذي مارسته قطر في مصر، وما هي العمليات المسلحة التي مولتها، أو وقفت وراءها؟ وهو أمر لم يتردد أمام القضاء ولو على سبيل الظن.
الحكاية ليست في المنبر الذي بث إعلان شفيق خوضه للانتخابات من خلاله، لكن في قرار خوضها، وهو الأمر الذي يهدد السيسي فعلاً، وكانوا قد استراحوا لأن المعركة ستكون مع شخص مثل خالد علي، يكفيه «شرف المحاولة كنا شباب يواجه دولة». وهو الهتاف الذي يتردد في هذه النوعية من المعارك، وهو فقط يريد الحفاظ على اللقب: «المرشح الرئاسي السابق»، والألقاب مثل تفويض السيسي بمقاومة الإرهاب تسقط بالتقادم، ونقيب الممثلين، اجتمع بمجلس نقابته بعد حادث مسجد الروضة، ومنح بالنيابة عن الفنانين والفنانات، الأحياء منهم والأموات، تفويضاً جديداً للسيسي لمواجهة الإرهاب، يبدو أن التفويض القديم «أتلفه الهوى»!
رغبة الثوار ورغبة العسكر
المشكلة إذن في «الجزيرة»؟! وقد هاجمها الفريق أحمد شفيق عبر موقع اخباري مملوك لرجل الأعمال نجيب ساويرس، مع أن ساويرس كان جزءاً من خطة المجلس العسكري في التخلص منه وهو المجلس الذي تنازل له مبارك عن الحكم، لكنه ترك أيضاً أحمد شفيق رئيساً للوزراء، وتلاقت الرغبات، رغبة المشير محمد حسين طنطاوي، مع رغبة الثوار، في التخلص منه، وكل طرف كان له «في مدح النبي غرام»، كما يقول شاعر الربابة؛ فالمشير يريد التخلص من رجل قوي، ويريد تابعاً، أو «عسكري مراسلة» وهو الوصف الذي أطلقته على رئيس الوزراء الذي جاء من بعده وهو عصام شرف، أضعف رئيس الوزراء في تاريخ مصر، ومنذ أيام البرامكة!
أما الثوار، فقد كانت المسألة بالنسبة لهم شكلية فلا يجوز وقد أسقطوا مبارك أن يستمر رئيس الحكومة المعين من قبله، وكنت معهم بطبيعة الحال، لكن المراهقة الثورية لم تدفعنا إلى النظر إلى المجلس العسكري على أنه أيضاً معين من قبل مبارك، فقط نظرنا إليه على أنه جهة محايدة لتسيير الأعمال، وقد اكتشفنا أنها مراهقة ثورية لأن هذا المجلس هو الذي دمر الثورة وأساء إليها، مع سبق الإصرار والترصد، وحقيقة الأمر أنا لم أكن مرتاحاً لنزول الجيش في ليلة الثورة، وعبرت عن هذا صراحة، لكن صوتي ضاع وسط الأصوات الهاتفة من كل التيارات، وما أن دخلنا «ميدان التحرير»، حتى أطلقت علينا القنابل المسيلة للدموع من قبل القوات، التي تبين أنها لم تأت لتحمينا من الشرطة، ولكنها جاءت لتقدم لها المؤن والذخيرة بعد هزيمتها، فيا لنا من مراهقين ثوريين، ولا بأس فقد «كنا شباب بيواجه دولة»!
لقد أعدت الخطة بإحكام، فاستضيف شفيق في برنامج على قناة «أون.تي.في»، المملوكة لنجيب ساويرس، وكان معه الإعلامي حمدي قنديل، وعلاء الأسواني، وليس بالضرورة أن كل الحاضرين كانوا جزءاً من الخطة، ولهذا فقد شارك في الحلقة «نجيب ساويرس» بنفسه ليضمن أن تسير في الاتجاه المرسوم، وكان في هذه الفترة ينتحل صفة «ثوري»، ومن هنا ضربت الثورة، عندما سمحت لرجال عهد مبارك أن يتصدروا مشهدها، لكن لا بأس فساويرس يمتلك محطة تلفزيونية، ومن شكلوا الائتلافات الثورية، كانوا في حالة شبق للشهرة، وهم وبمقابل الظهور الإعلامي مكنوا إعلاميي العهد البائد من الاستمرار، والمدهش أنه في الوقت الذي كانت فيه الثورة ترفع صورة ياسر رزق رئيس مؤسسة «أخبار اليوم» الصحافية في ميدان التحرير ضمن الإعلاميين الذين ينبغي أن يشملهم التطهير الثوري، كان ثوار الائتلافات يلتفون حوله، لأنه عقد مؤتمراً لهم في مؤسسة أخبار اليوم، باعتباره مفجر الثورة، وهذه التشكيلات أطلقت عليها مبكراً «ائتلافات الوجاهة الاجتماعية» وبعضها كان مكوناً من شخص واحد فقط!
في اللقاء بالغ علاء الأسواني في الاحتداد على أحمد شفيق حتى بدا من المبالغة أنه مدفوع بأمر ما، وفي حلقة مهدت لإقالته بعد ذلك باعتبار أن ذلك أمراً ثورياً، ولا راد لأوامر الثوار!
ما علينا، فقد اختص أحمد شفيق موقع نجيب بتصريح ناري ضد «الجزيرة» وصل إلى حد اتهامه بالقرصنة للسطو على بيانه، ولم يكن هذا مبرراً لعدول القوم عن هجومهم عليه، وقد اختزلوا مبرر الهجوم في ظهوره على شاشة القناة القطرية، وأيضاً لأنه تمضمض بالحليب وخان العيش والملح، في الإمارات، «ويا غدار» بصوت الفنانة «لطيفة»!
فهل الأزمة فعلاً في أن بث البيان كان عبر قناة «الجزيرة»؟!
برود «فرانس 24»
المعلن أن شفيق سيتوجه إلى باريس، بلد الجنة والملائكة، حسب وصف طه حسين في قصة حياته «الأيام»، وربما عندما تنشر هذه السطور، يكون قد وصل إلى هناك، ومن الطبيعي أن تسعى قناة «فرانس 24» إلى إجراء مقابلة معه، فماذا سيكون الرد؟!
«فرانس 24» ليست لها شعبية «الجزيرة»، فهي تبدو موجهة للمغرب العربي وليست إلى مصر، وإن كان الأداء فيها يدفع للإيعاز بأنها ليست معنية بما يدور على الكرة الأرضية، فلا ينقص مذيعها الصوت الجميل، كما لا ينقص مذيعاتها الجمال الهادئ غير المبتذل، فضلاً عن أن طاقم الفنيين فيها يبدو على درجة عالية من المهنية، ويظهر هذا في جمال الصورة، وقوة الإضاءة، وحركة الكاميرا، لكن أداء مقدمي البرامج يفتقد إلى الحماس، وتذكرني بالإذاعة العراقية زمان، في اللحظات السابقة لإعلان المذيعة: «نتمنى لكم نوما هادئاً وأحلاماً سعيدة»، فيغشى المستمع النعاس تأثراً بهذا الصوت النائم!
وأعتقد أن مذيعات «فرانس 24»، لو خرج لهن المارد من مصباح علاء الدين: «شبيك لبيك»، وحقق لهن أمانيهن جميعها، فسوف يقابلن هذا بابتسامة عريضة مجاملة للمارد لا أكثر، وبدون أي احساس بالحماس!
وقد يكون مردود المقابلة هو ذات مردود مقابلة تلفزيون «العربي» مع محمد البرادعي بعد سنوات من الصمت، وبعد ربع ساعة من الحلقة الأولى، فقد المشاهد حماسه، لكن شفيق ليس هو «البرادعي»، فالأخير تاريخ، والأول حاضر يهدد عبد الفتاح السيسي تهديداً حقيقياً إن ترشح فعلاً، ومن هنا فإن أي ظهور تلفزيوني له لابد أن يربك أهل الحكم في مصر وأذرعهم الإعلامية بالتبعية. فماذا عساهم أن يقولوا على «فرانس 24»، وهي ليست قناة «الجزيرة»، كما أن ماكرون حليف للسيسي، الذي حوله إلى مندوب مبيعات لدى الشركة المصنعة لـ «الرافال» ينتظر العمولة في كل صفقة!
الشواهد تقول إنه لا يستبعد أي شيء، والذين اتهموا «بي بي سي» بأنها قناة اخوانية، يمكن أن يقولوا إن «فرانس 24» أسسها التنظيم الدولي للإخوان، ويمكن لهم أن يستعيدوا تاريخ الحملة الفرنسية على مصر، ودخول نابليون الأزهر الشريف بخيول حملته.
وتعلمون أن أحمد موسى قاد حملة الأسبوع الماضي ضد «بي بي سي» لتغطيتها لحادث العريش الأخير، ووصل الحال إلى المطالبة بإغلاق مكتبها في القاهرة، وأعطى دروسا في المهنية للعاملين فيها عندئذ أدركت أننا أمام علامة من علامات يوم القيامة، «وأن تلد الآمة ربتها»!
وقد فات عبد الفتاح السيسي، وهو ينزل إلى سوق الإعلام ليشتري القنوات التلفزيونية والصحف، أن الإعلام الدولي خارج سيطرته، ومن ثم فلن ينجح في أن يعزل أحمد شفيق في زمن السماوات المفتوحة.
وللجزيرة، الفضل في أن تفجر قضية منع أحمد شفيق من السفر، ومن ثم يتم إلغاء القرار، بعد أن تحول الأمر إلى فضيحة، ومثل دعاية سلبية لدولة الإمارات التي تتدخل في الشأن المصري، صحيح أن تدخلها قائم منذ الانقلاب العسكري، لكن هي المرة الأولى التي تضبط متلبسة بالجريمة!
لقد جاءك الموت يا تارك الصلاة
أضف تعليقك