في ظل تكرار سؤال "البلد رايحة على فين؟".. عندما سأل أحد الأشخاص مسؤولا حكوميا كبيرا نفس السؤال، كان جوابه "إحنا بنباصى الكرة لبعض، محدش بيفكر يجيب جون، وها نفضل كده منتظرين صفارة الحكم".
ويبدو أن البعض بالفعل يمارس نفس السلوك في الجهات الحكومية المختلفة، ممتنعا عن توقيع القرارات الحيوية، حتى ينتقل إلى وظيفة أخرى يمارس فيها نفس السلوك، لحين الخروج للمعاش.
وعندما تذكره بأن هذا من شأنه تعطيل الأمور، سيأتى الرد سريعا، وهل وجد من تحملوا عبأ اتخاذ القرار من يحميهم من بطش السلطة وتعسفها وغدرها؟
ومن مظاهر ذلك أيضا عدم إبداء الرأى الحقيقى في المسائل المعروضة في اجتماعات ومناقشات المؤسسات والجهات الرسمية، في انتظار معرفة توجه المسؤول الكبير، للسير في ركابه والإشادة بأفكاره، مهما كانت تسبب من مضار للمؤسسة وللمجتمع، وهدر للموارد المحدودة للبلاد.
الصبر على جار السو
وانتقل ذلك حتى خلال التعبير عن الرأى في المجالس العامة في قرارات المسؤولين ومشروعاتهم، إلى اتخاذ النفاق كوسيلة للحفاظ على النفس والدخل والعمل، يقول أحدهم: إذا كان رئيس لجنة حقوق الإنسان بالبرلمان، المنوط به حماية حقوق المصريين، لم يستطع حماية حقوقه الشخصية، فمن يستطيع حماية حقوقى إذا غضب هؤلاء الكبار منى؟
وأصبح السلوك العام بين هؤلاء متصلا بالمثل الشعبى: "اصبر على جارك السو، يا إما يرحل يا إما تجيله. تخده".
وتسمع تبريرات عديدة لهذا السلوك بأن حالة الاختناق زادت حدتها، سياسيا وحزبيا ونقابيا وإعلاميا وقضائيا واقتصاديا، ففي مجال البيزنس كان الحديث أيام مبارك عن التعارض بين حرية السوق كنظام اقتصادى تتبعه الدولة، وبين إسناد المشروعات للشركات العامة بالأمر المباشر، ثم اختلف الأمر مع نظام 3 يوليو إلى التعارض بين بين زيادة دور الجيش اقتصاديا على حساب القطاع الخاص. ثم أصبح مجال التنافس حاليا عند إسناد تنفيذ مشروع جديد، ما بين الجهات السيادية المختلفة، حيث يتبع كلا منها شركات مقاولات، أما دور القطاع الخاص فأصبح تابعا لتنفيذ بعض الأعمال التي تسندها له تلك الشركات من الباطن.
كان نتيجة ذلك غياب الأولويات، فالبرلمان الذي ينتظر تعليمات الحكومة والمنوط به دستوريا الرقابة عليها، يصدر قانون الرياضة قبل قانون المجالس المحلية، ومدينة العلمين تتضمن مقرا صيفيا لمجلس الوزراء بخلاف المقر الجديد بالعاصمة الإدارية، رغم أن قضية نقل الوزارات أساسا ليست أولوية ملحة، بالنظر لمشاكل الصحة والتعليم والمواصلات والمرافق.
مؤشرات اقتصادية خادعة
ومن النتائج الطبيعة لمناخ الاستبداد وغياب حرية الرأى والإعلام، تفشى المؤشرات الخادعة، مثل زيادة الاحتياطيات من النقد الأجنبى لتقترب من 37 مليار دولار لأول مرة. في حين أن أى طالب في السنة الأولى بكلية التجارة، يعرف أن زيادة الديون الخارجية بعهد النظام الحالى تزيد عن إجمالى الاحتياطيات، في حين أن إجمالى الديون الخارجية يمثل ضعف الاحتياطى، فهو احتياطى غير مملوك للمصريين.
ومن ذلك أيضا الزعم باستقرار سعر الصرف، وتحقيق موارد دولارية بلغت 80 مليار دولار منذ تعويم الجنيه، في حين أنهم يحتسبون القروض ومشتريات الأجانب لأذون الخزانة ضمن الرقم على أنها موارد!
وإذا كان نظام التعويم قد نجح كما تزعمون في تحقيق موارد دولارية كافية، فلماذا تطلبون تأجيل سداد بعض الأقساط، ولماذا تستمرون في الاقتراض من الخارج، رغم كبر حجم الدين وكبر تكلفتها بالموازنة؟ وأليس ذلك دليل واضح على كذب مزاعمكم؟
كذلك الزعم بأن التعويم قد أدى إلى زيادة استثمارات الأجانب بمصر، وبالطبع لا يتحدثون عن نوعية تلك الاستثمارات، بأنها استثمارات قصيرة الأجل معظمها تتراوح مدتها ما بين ثلاثة أشهر إلى ستة أشهر، أى أنها أموالا ساخنة تخرج سريعا دون إحداث أى تنمية، محملة بربح وفير تدفعه الموازنة الحكومية المتخمة بالعجز.
شهادات خارجية مبتورة النشر.
أيضا الاستناد إلى شهادات من مؤسسات دولية، تشير إلى تحسن مؤشرات الاقتصاد المصري مثل النمو والبطالة وغيرها، وقد لا يعرف الجميع أن هذه المؤشرات مصنوعة محليا، وكل ما يحدث هو أن تلك المؤسسات الخارجية تكرر ما تذكره الحكومة ولا يلقى قبولا من الخبراء المحليين.
والمهم أن تلك المؤسسات الخارجية تتحدث عن الأمراض المزمنة بالاقتصاد المصري، مثل كبر نسبة الدين العام للناتج، وارتفاع نسبة عجز الموازنة ونسبة التضخم العالية ونسبة الفائدة الكبيرة، وكبر العجز بالميزان التجارى، لكن إعلام الصوت الواحد يتغاضى عن ذلك، مثلما يتغاضى عن ترتيب الاقتصاد المصري حسب مؤسسات التصنيف الدولية عالى المخاطرة وغير الملائم للاستثمار.
ومن ذلك أيضا نمو العالية التي تعلنها وزارة التخطيط، والتى لا تلقى قبولا من أى تاجر صغير أو كبير في ظل حالة الركود الحالية، فكيف يتسق الركود مع النمو؟ وحتى بفرض صحة تلك النسب للنمو، ما هو مصدرها؟ هل الاستثمار أم الاستهلاك؟ إنه الاستهلاك.
التنمية أهم من النمو
وبفرض صحة نسب النمو المعلنة هل وصلت ثمار عملية النمو للمصريين؟ والإجابة أنها لم تصل بالمرة، وأهم من كل ما سبق أننا لا نحتاج إلى النمو بقدر ما نحتاج إلى التنمية.
فالنمو يمكن أن يحدث زيادة في الدخل ولكنها يمكن أن تكون ناتجة عن اقتراض، بينما التنمية تعنى زيادة في القدرات الإنتاجية، مثل الصناعة والزراعة والخدمات بما يوفر سلع وفرص عمل. ولذلك يمكن تشبيه النمو بالتنفس الصناعى غير المضمون استمراره، بينما التنمية مثل التنفس الطبيعى الذي يسمح للإنسان بممارسة باقى وظائفه.
ولذا يقول الاقتصاديون حتى من أنصار النظام، أن عملية الإصلاح الاقتصادى الحالية والتى ما زال أمامها عامان كى تكتمل، لا يمكن أن تنجح إلا بزيادة الإنتاج الصناعى والزراعى، أى بالتنمية وليس بمجرد النمو.
وهكذا وفي ظل تلك الأجواء غير الصحية وغير الديموقراطية، يظل التظاهر بالحركة لدى المسؤولين هو السائد، لكنها حركة أشبه بالجرى في نفس المكان، دون تحرك للأمام، في انتظار صفارة الحكم بالتغيير، غير المعروف هل سيكون حكما من الداخل أم من الخارج؟ وربما يكون للحكم مساعدين من الخارج، سواء من الخليج أو حتى من إسرائيل.
رغم أن الوقت الضائع في انتظار صفارة الحكم، ليس في صالح المجتمع في ضوء ما يحدث من غياب للأولويات وتبديد لموارد المجتمع المحدودة، والنتيجة زيادة الديون التي سيدفع الناس تكلفتها الآن وغدا وبعد غد. وهو ما يبين في نفس الوقت أهمية الديموقراطية لحياة الناس وحفاظها على موارد المجتمع، حين تحقق التغيير الذي ينشده المجتمع، في الوقت المناسب وبأقل ضرر مع الحفاظ على درجة عالية من التماسك والترابط الاجتماعى المفقود حاليا.
أضف تعليقك