«إننا نعمل على تصدير ثورتنا إلى مختلف أنحاء العالم»، لم يمر سوى عام واحد على انطلاق الثورة الإيرانية 1979 حتى أدلى الخميني بذلك التصريح الذي أثار توتر دول الجوار، وخاصة السعودية، تفاقَمَ مع اندلاع الحرب العراقية الإيرانية.
جاء تأسيس مجلس التعاون الخليجي في1981 كخطوة توافقية تنسيقية على طريق الوحدة الخليجية، حلقة بارزة في تاريخ التصعيد الخليجي السعودي في مواجهة الخطر الإيراني، الذي باتت معالمه واضحة من أنه مشروع قومي مُحمّل على رأس طائفي، يستهدف التوسع في المنطقة عبر جغرافية متصلة، تبدأ من طهران، مرورا ببغداد وسوريا، ثم إلى لبنان، ووصولا إلى السيطرة على اليمن ومضيق باب المندب، إلى أن تجد دول الخليج وعلى رأسها السعودية نفسها وجهًا لوجه أمام الخطر الإيراني.
شهدت السنوات الأولى للثورة الإيرانية بقيادة مرشدها الأول الخميني، العديد من مظاهر التوتر والتصعيد ضد السعودية، يأتي على رأسها تفجير الأزمات في مواسم الحج عن طريق الحجاج الإيرانيين، ومن ذلك أحداث 1987 عندما تحول أحد الطقوس الشيعية في الحج المعروف بـ «مظاهرة البراءة من الشرك»، إلى مواجهات دامية ومحاولة لاقتحام الحرم، تمّ خلالها حرْق سيارات ومبانٍ، ما أدى إلى إصابة العديد من الحُجاج.
وعقب هذه الأحداث مباشرة، قامت مجموعة كبيرة من الإيرانيين باقتحام مقر السفارة السعودية في طهران، واحتجزوا دبلوماسيين سعوديين داخلها، وتم الاعتداء عليهم، بينهم القنصل السعودي رضا عبد المحسن النزهة، بينما توفي الدبلوماسي السعودي مساعد الغامدي، بعد نقله إلى بلاده متأثرا بإصابته، ترتب على ذلك قطع العلاقات السعودية مع إيران حتى عام 1991.
في أعقاب الغزو العراقي للكويت عام 1990، سادت حالة من الهدوء بين البلدين، تزامنت مع وجود علي خامنئي على رأس السلطة كمرشد أعلى، وأكبر هاشمي رفسنجاني كرئيس للجمهورية، حيث شهدت تلك الفترة تحوّلا في المسار الثوري الإيراني من خلال فرض المشروع عبر أجندات ثقافية وتبشيرية واجتماعية واقتصادية بعيدا عن الصِدام.
وأخذت العلاقات بين السعودية وإيران في التحسن بشكل عام منذ عام 1997، بعد فوز محمد خاتمي برئاسة الجمهورية الإيرانية، والذي كان يتبنى سياسة نزع التوترات، لم تلبث أن تلبّستْ بمخاوف سعودية عام 2003، بعدما وكلت واشنطن إلى جماعات موالية لإيران إدارة العراق، تحوّلت إلى توتر في العلاقات عقب صعود تيار المحافظين بعد فوز أحمدي نجاد في الانتخابات الرئاسية 2005.
وشهد عام 2007 تدخلات إيرانية صارخة في المشهد العراقي، زادت من تأزم العلاقات بين طهران والرياض، ونشطت التحركات الإيرانية في المنطقة عبر الأقليات والجماعات الموالية لها في دول المنطقة.
كان لهذا التدخل الإيراني في شؤون المنطقة أثره في اندلاع مظاهرات بحرينية في 2011، أسفرت عن تدخل سعودي مباشر على رأس قوات درع الجزيرة التي أنشأها مجلس التعاون الخليجي، للسيطرة على الأوضاع في البحرين لصالح النظام الحاكم.
«عملية التحالف الأحمر» كان الاسم الذي أطلقه مكتب التحقيقات الفيدرالي بالولايات المتحدة الأمريكية على محاولة إيرانية في أكتوبر2001، لاغتيال السفير السعودي في واشنطن عادل الجبير- يتولى حاليا منصب وزير الخارجية – كانت إحدى صور التصعيد الإيراني ضد السعودية.
ازدادت حدة التوتر بين السعودية وإيران بعد اندلاع ثورات الربيع العربي التي أعادت صياغة الاستقطابات الإقليمية، والتي أنتجت محورا عربيا إسلاميا بقيادة السعودية يضم دول التعاون الخليجي ودولا عربية وإسلامية أخرى، ومحورا آخر إيرانيا يضم أذرعا إقليمية مرتبطة بالمركز (إيران) عبر نظرية الولي الفقيه التي صاغها الخميني.
وفي الوقت الذي ربحت إيران في ميدان العراق على حساب السعودية التي سعت إلى احتواء النفوذ الإيراني فيه من خلال ورقة الاقتصاد والعلاقات الدبلوماسية، خاض الجانبان جولة أخرى من الصراع في سوريا، حيث دعّمت إيران نظام الأسد الموالي لها، في حين وقفت السعودية إلى جانب بعض القوى الثورية المناوئة للنظام.
وشهدت ولاية الرئيس الأمريكي باراك أوباما اتجاها للمواءمة مع إيران بلغت ذروتها في اتفاقية النووي الإيراني مع دول 5+1، والتي جاءت على حساب الأمن الخليجي، ما فجّر مخاوف سعودية من النفوذ الإيراني، وخاصة في اليمن، والتي سبق وأن وجهت المملكة بهذا الصدد اتهامها لطهران عام 2014 بتقديم الدعم الشامل لجماعة الحوثيين في اليمن، والتي قامت بالسيطرة على صنعاء ومقر الحكومة والعديد من المقرات الاستراتيجية، نتج عنه تصعيد سعودي بقيادة عشر دول عربية لخوض العمليات العسكرية المعروفة باسم «عاصفة الحزم» ضد الحوثيين وقوات الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح في 26 آذار/مارس عام 2015، دعما للشرعية وحفاظا على الأمن القومي الخليجي وفق الرؤية السعودية.
في العام نفسه، تصاعد خطاب التهديد الإيراني إلى أعلى مستوياته، بعد مقتل حجاج إيرانيين في حادثة تدافع منى، وقامت إيران بتحميل السعودية المسؤولية عن الحادث، وطالبتها بتقديم اعتذار رسمي لطهران.
لم يسبق أن بلغ حد التصعيد والتوتر بين السعودية وإيران كما بلغ هذا العام، جرف في مساره شؤون البيت الخليجي بعد أن حاصرت السعودية والإمارات والبحرين (إلى جانب مصر) دولة قطر بعد رشقها بحزم من الاتهامات من بينها تأييد إيران في مواجهة الخليج، وهو ما تنفيه الدوحة.
صاروخ باليستي أطلقه الحوثيون باتجاه مطار الملك خالد بالرياض تصدت له الدفاعات الأرضية السعودية – قيل أنه يحمل توقيعا إيرانيا – أثار موجة عاتية من التصعيد، حيث اعتبرته السعودية عدوانا عسكريا إيرانيا مباشرا، أتبعه إصدار التحالف العربي في اليمن بيانًا توعد فيه بالرد عبْر سلسلة من الإجراءات التي تحمل تهديدا لإيران، قابلته الأخيرة بتصريح من خلال رئيسها يحذر من عواقب أي تصعيد سعودي، داعيا المملكة إلى الحذر من قوة ومكانة إيران.
تزامن الحدث مع إعلان رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري استقالته من قلب الرياض، اعتبرته إيران تصعيدا سعوديا جديدا يستهدف إعادة تشكيل الأوضاع اللبنانية التي يتصدر المشهد فيها حزب الله اللبناني الموالي لإيران.
حزب الله كان ولا يزال متموضعا في الصراع بين السعودية وإيران، حيث تعتبره المملكة ذراعا إيرانيا في لبنان، قام بمساندة النظام السوري في القتال الدائر في سوريا، ودعّم جماعة الحوثيين في اليمن، وعلى إثر ذلك حصلت المملكة على ما يشبه إجماع عربي على اعتبار الحزب منظمة إرهابية وذلك في اجتماع وزراء الخارجية العرب بمقر جامعة الدول العربية بالقاهرة 19 تشرين الثاني/نوفمبر، بناء على طلب السعودية، ضد ما قالوا أنه انتهاكات إيرانية بحق الدول العربية.
لا يمكن النظر إلى التصعيد السعودي الحالي ضد إيران بمعزل عن الموقف الأمريكي من الصراع السعودي الإيراني في حقبة سيطرة الجمهوريين برئاسة ترامب، والذي يتجه إلى تقويض العلاقات مع إيران وضرب اتفاقية النووي مع تقارب أكثر باتجاه الخليج، ما شجع المملكة على اقتناص الفرصة والتصعيد ضد طهران.
فهل باتت المواجهة بين الجبهتين وشيكة؟
من المستبعد في الوقت الراهن اندلاع مواجهات مباشرة بين السعودية وإيران، فأما السعودية فقد أُرهِقت ماليا في الحرب ضد الحوثيين في اليمن، وهي كما يبدو حرب لا نهاية قريبة تلوح في أفقها، إضافة إلى الشأن الداخلي المُرتبك بعد حُزم القرارات الأمنية والاقتصادية التي اتخذها ولي العهد السعودي، والتي اختُلف في توصيفها ما بين التهور والجرأة.
كما أن السعودية تعمل حسابا للقوة الصاروخية الإيرانية، وحسابا آخر لورقة الأقليات والتجمعات الشيعية التي تحركها إيران داخل وخارج المملكة.
وأما إيران، فإنها لم تتعافَ بعْدُ من الآثار الاقتصادية الطاحنة لحرب الخليج الأولى، ومن العقوبات الاقتصادية المتعاقبة التي فُرضت عليها منذ عام 2006، وهي كذلك تأخذ في حساباتها على محمَل الجد أنها لن تكون في مواجهة السعودية وحدها، والتي يتوقع أن تساندها العديد من الدول العربية والخليجية، إضافة إلى تخوّف إيران من التسليح السعودي عالي المستوى الذي كلّف المملكة مئات المليارات.
أغلب الظن أن مسار التصعيد السعودي ضد إيران، سوف يقف عند حد سعي المملكة لنيل أكبر قدر ممكن من التأييد الدولي والعربي لاحتفاظها بحق الرد على طهران، بما يعني رغبة السعودية في التحرك ضد إيران تحت غطاء قانوني دولي، لخلق دافع دولي في توقيع عقوبات جديدة على إيران يحدّ من نفوذها وتهديداتها، تتمكن من خلاله السعودية وحلفاؤها من تقليم أظافر الأذرع الإيرانية في المنطقة، وهو ما بدأت المملكة بالفعل في الشروع بتنفيذه، متمثلًا في سعيها لتقويض قوة حزب الله اللبناني، والذي لا يستبعد أن تقوم السعودية بتوجيه ضربات بالوكالة إلى قواته المتمركزة في لبنان.
أضف تعليقك