من قلب قبيلة الكايي التركية خرج رئيس المحاربين تورغوت ألب، يرافقه بامسي المحارب الذي لا يقاتل إلا بسيفين، وانطلقا إلى تلك الأرض البعيدة من بلاد العرب، فاستقبلتهما وجوه كانت لرؤياهم بالأشواق، فكان لقاءً حميميًا تلاقت فيه أطراف الحضارة.
إنها الجوْلة التي قام بها أردوغان مؤخرًا إلى قطر، مصطحبًا معه رمزين من أبطال مسلسل «قيامة أرطغرل»، الذي يُعد – دون مبالغة – بمثابة زلزال درامي اهتز له الوطن العربي بأسره، وأصبح حديث الجماهير العربية التي وجدت ما تنشُده في ذلك العمل الكبير الذي دخل موسمه الرابع منذ أسابيع قليلة.
ربما كان اصطحاب أردوغان للبطلين اللذين يُجسّدان شخصيات مُقاتِلة من قبيلة الكايي، يحمل دلالة رمزية على إصرار تركيا على دعمها العسكري لقطر، تتوافق هذه الرمزية مع ما أكّد عليه الرئيس التركي بالفعل من دعم بلاده لقطر عسكريا، قد يرى البعض أن الفكرة لا تُجاوز خيالي، لكن على كل حال هناك اهتمام غير عادي من القيادة التركية بهذا المسلسل وأبطاله. يظهر هذا الاهتمام في الزيارات المتكررة من قِبَل الشخصيات البارزة لمواقع التصوير، مثل: أردوغان وقرينته، وكذلك رئيس الوزراء السابق داود أوغلو، وبكر بوزداغ نائب رئيس الوزراء الحالي، وغيرهم.
كما يتبدّى ذلك الاهتمام في تكرار الظهور لأبطال المسلسل في المناسبات والاحتفالات الرسمية المختلفة داخل تركيا، حيث أصبحت المشاهد التي تضمّ أردوغان وأبطال المسلسل شيئا اعتادت عليه أعين المتابعين، حتى أن الرئيس التركي كان شاهدا على زواج الفنانة إسراء بيلغيتش، التي جسّدت في المسلسل شخصية السلطانة حليمة زوجة أرطغرل. السؤال الذي يطرح نفسه، لماذا كل هذا الاهتمام من القيادة التركية بهذا المسلسل وأبطاله على هذا النحو؟ لماذا يتم تصدير وجوه أبطال المسلسل في الزيارات الخارجية؟
ابتداء، لو عدنا إلى الوراء في الحقل الدرامي، سندرك أن وظيفة الفنان أو الممثل كانت أصدق ما توصف به أنها وظيفة لتسلية الناس، بل كانت في بدايتها في بعض الدول العربية مِهنة مَشِينة، لدرجة أن عائلات بعض الفنانين تبرأوا منهم لدخولهم عالم التمثيل. مع تنامي تأثير الدراما في شعوب العالم بفعل مجموعة عوامل – ليس هنا مجال ذكرها – تغيّر شأن الممثل، حتى غدَتْ وجهة نظرِه في الأحداث الجارية على مختلف الأصعدة، تَحْظى بمتابعة جماهيرية كبيرة، وصار عضوا مشاركا في رسم الصورة الذهنية عن بلاده لدى المجتمعات الأخرى، وأصبح مِن الممثلين من يتم اختيارهم كسفراء للنوايا الحسنة، إلى جانب إسهام بعضهم في الأعمال الإغاثية على مستويات دولية.
ما يفعله أردوغان هو استغلال وتوظيف الدراما الهادفة باعتبارها إحدى الأدوات العصرية للقوة الناعمة، التي تحقق الأهداف والرغبات بالوسائل الحضارية بعيدا عن الإرغام، وتجتذب الأطراف المَعْنية إلى المسار الذي يخدم مصالح الدولة التركية. يرعى أردوغان خطًا لإنتاج الدراما الهادفة التي تركز على التاريخ العثماني لربط الشعب التركي بتراثه، وذلك بعد عقود من إطفاء الكماليين لجذوة ذلك التراث وفصل الشعب التركي عن ماضيه الذي يُعد حلقة مهمة في التاريخ الإسلامي. فأردوغان يسعى جاهدًا لمواجهة الدراما التي تشوه تاريخ الأتراك – والتي تنسجم مع الشكل الذي رسمه أتاتورك لحياة ذلك الشعب – بتيار آخر محافظ، وعلى هذا الطريق يحاول الرئيس التركي احتضان العديد من الفنانين، والزجِّ بهم في ذلك التيار المحافظ. ومن يتابع أنجين آلتان دوزياتان بطل مسلسل أرطغرل، يدرك أنه بعيد عن أي توجّه ديني، بل إنه لا يُخفي إعجابه بمصطفى كمال أتاتورك، ومع ذلك أصبح عنصرا مهما في دراما التيار المحافظ، واستطاع أن ينسجم مع الاتجاهات الرسمية للدولة في توظيف ذلك الخط كقوة ناعمة، وقدّم عرضا شهيرا في مؤتمر الطاقة أمام الرئيس الروسي بوتين.
استطاع ذلك النمط من الإنتاج الفني التأثير وبقوة في الشعوب العربية والإسلامية بصورة غير مسبوقة، وقد تناولتُ في مقالة على «القدس العربي» منذ ستة أشهر مظاهر ودلالات التفاعل العربي مع ذلك العمل الدرامي الهادف (قيامة أرطغرل)، ذلك التفاعل وصل إلى حد تغيير خريطة المسلسل، حيث اضطر القائمون عليه إلى عدم إنهائه كما كان مقررًا له بنهاية الجزء الثالث، بل تم تغيير النهاية بما يضع الجمهور أمام موسم رابع، ظلت الجماهير العربية المتابعة في شغف لا يخمد إلى موعد انطلاقه. ولئن كان مسلسل أرطغرل يحظى باهتمام بالغ من الحكومة التركية، إلا أن هناك العديد من الأعمال التاريخية الهادفة الأخرى، التي تندرج تحت النمط ذاته، أبرزها: فلينتا- السلطان عبد الحميد، فيما يجري التحضير لعرض مسلسل «الفاتح».
هذه الأعمال التاريخية، أسهمت بشكل كبير في تعريف الجمهور العربي بالثقافات والعادات التركية الأصيلة، ووجهته إلى الاهتمام بالتراث العثماني، وهو ما يتناغم مع التوجهات التركية الجديدة الرامية إلى الانفتاح على العالم العربي الإسلامي.
الفرق بين أردوغان وغيره في استغلال هذه القوة الناعمة، أنه يعمل على ذلك بصورة انتقائية تتوافق مع توجهاته الإصلاحية والنهضوية، فيركز على أن يحيط نفسه بمجموعة تنتظم في خدمة الوطن عبر الأعمال الهادفة، ويرى المتابع بغير عناء، أنه ينفث فيهم روح الوطنية، ويشعرهم بأهمية ما يقدمون من أعمال للنهوض بالمواطن التركي. وفي المقابل، هناك من يسعى للتقليد بهدف الدعاية السياسية، فيصطحب معه في أسفاره بعضا من أهل الفن المؤيدين له في قراراته، الذين دأبوا على تقديم أعمال هابطة، على المستويين الأخلاقي والقيمي، فكيف سيوظِّف هذه الأداة كقوة ناعمة؟ وما الهدف من تقديم هذه النماذج وتصديرها في الزيارات الخارجية لمجرد شهرتهم؟ وهل يسعى للتأثير في الشعوب الأخرى من خلال دراما رخيصة لا تهدف إلا للربح؟
لم أعُد أُحصي كم مرة كتبتُ عن هذا المسلسل، ففي كل مرة أجد نفسي أمام زاوية جديدة تستدعي التطرق إليها، فهذا المسلسل ليس مجرد عمل فني، بل نشاط سياسي تركي، يربط بين الأتراك وتراثهم من ناحية، وبين الأتراك والوطن العربي الإسلامي من ناحية أخرى، كمجالٍ حيوي لدولة تركيا. ربما اتَّهمني البعض بالمبالغة والتضخيم، لكن هذه هي قناعاتي التي تجعلني أقول: إن كل شيء في تركيا يتطور بالفعل.
أضف تعليقك