يرى الباحثون والعلماء أن الحد الأقصى الذي يمكن لأي زعيم في هذا العالم أن يمضيه في الحكم يجب ألا يتجاوز العشر سنوات، لأن للبشر قدرة محدودة على التحمل فيزيولوجياً ونفسياً وعقلياً. فبعد هذه الفترة يكون القائد قد استنزف تماماً، ولن يعود قادراً على الإنتاج السياسي، وبالتالي حرام أن يستمر على رأس السلطة رأفة بحاله وحال البلاد، لكن مع ذلك لا يمانع كثير من الحكام العرب أن ينتقلوا من القصر إلى القبر.
هل تعلمون أن أحد القادة العرب كان يوقع بعض القرارات والمراسيم وهو على فراش المرض؟ وقد روى بعض وزرائه أن زعيمهم كان يبلل ثيابه معظم الوقت بعد أن فقد القدرة على التحكم بوظائفه الفزيولوجية بحكم المرض والتقدم الشديد في العمر، وكان وزراؤه يضعون أيديهم على أنوفهم عندما يدخلون إلى مكتبه، لكنه مع ذلك أبى إلا أن يسّير الدولة ويحكم إلى آخر لحظة.
ولو كان لدينا دولة مؤسسات تسيّر نفسها بنفسها بدون تدخل وجهد كبيرين من رئيس الدولة، لقلنا له لا مانع من أن يبقى الحاكم في السلطة عشرين عاماً بدل عشرة كاستثناء، لكن المشكلة أنه ليس لدينا دولة مؤسسات، فكل عجلات الدولة مربوطة إما بالبلاط أو القصور الجمهورية بما فيها مصلحة الصرف الصحي والمزابل الوطنية.
ربما جاء بعض الزعماء العرب إلى السلطة بأفكار وبرامج ومشاريع ورؤى يريد تطبيقها، وهو أمر مشكوك فيه. لكن المشكلة أنهم أخذوا وقتاً فلكياً لتنفيذ برامجهم السياسية التي كان معظمها وبالاً على الشعوب. ومعروف أن الأحزاب التي تحترم ذاتها تضع لنفسها فترة حكم واحدة لتطبيق برامجها لا تزيد على أربعة أعوام ثم يأتي غيرها لينفذ برامج أخرى. أما عندنا فلا مانع أن يأخذ الحاكم خمسين عاماً كي ينفذ مشروعه السياسي، هذا إذا كان لديه مشروع أصلاً، وإذا لم ينجز المشروع فلا مانع من التمديد، وإن مات فيكون قد اختار مسبقاً وصياً على مشروعه السياسي كي يكمل مشوار الخراب من بعده ويجرب مشاريعه الهلامية بالبلاد والعباد. وهلم ما جرى.
وقد حدثني أحد المقربين من بعض الأنظمة العربية أن الزعيم رفض ذات يوم أن يُدخل أجهزة استقبال فضائية أو تركيب صحون في مقر الحكومة لمشاهدة القنوات الفضائية. كما رفض السماح بإدخال الأنترنت لأنه لا يفهم فيها. لا بل رفض رفضاً قاطعاً أن يغير سجاد القصر، لكن ليس من باب التوفير والحفاظ على المال العام، بل لأنه لا يحب أن يغير أي شيء. ولا أدري كيف سيتعامل هذا الزعيم مع العلماء والباحثين الذي يريدون استكشاف المستقبل وسبر أغواره. لا شك أنه سيقول لهم: "مش ضروري!" لأنه ليس في أقنوم العديد من الحكام العرب أي نزوع للبحث والتجديد والتطوير. وكم من المشاريع التحديثية الكبرى انتظرت في كواليس الحكومات العربية عقوداً بأكملها احتراماً "للزعيم الأب" وعدم القفز فوق "توجيهاته الكريمة" حتى يموت!
وبما أن الناس على دين ملوكهم عادة فإن بقية مكونات المجتمع تسير على هدي النظام الحاكم الذي اتخذ من التحجر شعاراً له. فرؤساء أحزاب المعارضة العرب يتوارثون رئاسة أحزابهم أباً عن جد تماماً كالزعماء الحاكمين. وما حدا أحسن من حدا. وحتى مديرو المدارس الابتدائية يشيخون وهم في وظيفتهم ناهيك عن رؤساء البلديات، فهم يشبون ويشيبون في نفس القرية أو المدينة. أما رؤوساء النقابات فيبقون إلى الأبد.
متى تدرك دولنا أن أي زعيم لديه قدرة محدودة على إنتاج الأفكار والإبداع السياسي، فبعد خمسة أو عشرة أعوام يكون قد بدأ يكرر نفسه، إن لم يكن قد دخل مرحلة الخرف السياسي، وبالتالي لا بد أن يفسح المجال لدم جديد كي يعيد الحياة إلى الدورة الدموية للبلد والدولة. لكنه لا يفعل، مما يجعل كل عجلات الحياة في البلاد تتوقف عن العمل عند حد معين.
ويسألونك بعد كل ذلك لماذا نحن متخلفون، ولماذا كل أمم الأرض تتطور، بينما نحن نقبع في مؤخرة القافلة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً؟ آه لو قام بعض زعمائنا بتقليد ذكر النحل الذي يتوارى عن الأنظار (يموت) فوراً بعد الانتهاء من وظيفته المتمثلة بتلقيح النحلة ليفسح المجال لمملكة النحل كي تنتج العسل. ليتهم يقلدون نوعاً آخر من النحل الذي يتلاشى مباشرة بعد أن يلسع لسعة واحدة؟ أما كثير من حكامنا فقد اتخذوا من لسع الشعوب وظيفة أبدية.
أضف تعليقك