عاش (صالح) سنين عددًا بين إخوانه فى حيه الراقي، الذى قطنه منذ مجيئه من قريته القابعة فى أعماق الصعيد، بعدما تخرج من كليته المرموقة حاصلا على درجة (البكالوريوس). لم تكن قريته ولا مركزها يستوعبان تخصصه، بل قلْ إن طموحه كان أكبر من حدود محافظته نفسها؛ ولا انطلاق إلا فى «مصر»، قاهرة المعز «ذات الألف مئذنة».
وكما لم يعمل فى «الريف»، فكذلك لن يتزوج منه، وكان مبرره أن ابنة القاهرة أدرى بشعابها، تتحدث لهجة أهلها، وتعرف عاداتهم وتقاليدهم، وتدرك ما يفرحهم وما يبكيهم. فما إن وطئت أقدامه ذلك الحى الراقى وتعرّف إلى إخوانه فيه حتى شرع فى البحث عن «عروسة»، واشترط أن تكون ممن يحملن مبادئه، ويعتقدن معتقداته، ويعرفن عاقبة من يحملون هذه المعتقدات وتلك المبادئ.
لم يلتفت «صالح» إلى زملاء عمله الذين سخروا من عجلته فى الزواج؛ إذ الواحد منهم لا يفكر فى هذا «المشروع» -إن فكر- إلا بعد الثلاثين، وهو لم يكمل بعدُ الخامسة والعشرين، لكنه فى قرارة نفسه صار عازمًا على استكمال دينه، بالزواج من «أخت» تعينه على هذا الأمر، وتؤنس وحدته؛ ولكى يشعر بأنه فرد طبيعى فى ذلك المجتمع الجديد، له أزواج وذرية.
شهور قليلة وكان «صالح» قد ارتبط بفتاة هى عين ما تمناه فى زوجه؛ دين وجمال وحسب، فكأن الدنيا قد فرحت لفرحه، وكأنه قد حاز ملكًا لم يحزه إنس من قبله؛ وسرعان ما أتم البناء، فكان مخبر تلك الفتاة أحسن مما ظن وتوقع، فعرف معنى الشكر كما لم يعرفه من قبل، وأُلهم الحمد، وتفنن فى الدعاء، ولم لا؟ لقد فتح الله له أبواب الرزق الحلال، ورزقه الزوجة الصالحة التى لا تعصى له أمرًا وتسره رؤيتها، وأعظم العطاء: إخوانه الذين لم تلدهم أمه، وهم كثر، الذين إن قام قاموا لقومته، وإن فزع هبوا لنجدته، يسألون عنه، ويتفقدونه فى كل أحواله، ويذكرونه بالله، ويعينونه على الطاعة والعفاف.. إذًا ماذا بقى له من السعادة؟، وقد أصبح رجل أعمال شهيرًا خلال سنوات ورزق ثلاثة من حبات القلوب: محمد، أروي، إيمان.
آه يا دنيا!! وماذا بعد؟ ماذا تعدّين لي.. أعلم أن بعد اخضرارك سيكون سوادك، فإنك ما أسعدت إلا أتعست، وما فرحت إلا أحزنت.. لكن لا حرج عليك، فخضرتك وسوادك يستويان عندي، كل ما أخشاه وأرجو الله أن يصرفه عنا ألا تكون المصيبة فى الدين.. يا رب إن أبنائى هم الآن أعز ما أملك، وهم أحب إلى من كل شيء إلا منك -سبحانك- ومن رسولك، فاحفظهم اللهم، واهدهم، واجعلهم من عبادك المخلصين.
أفاق (صالح) من حلم يقظته على صراخ زوجه وهلعها: محمد استشهد يا صالح، محمد لحق بربه، محمد حقق الله أمنيته... متي؟ وكيف؟ وأين؟ سأل وهو يعرف الإجابة، محمد لم يكن أول الشهداء، ولن يكون آخرهم.. لعنة الله على العسكر، لم تجف دماء الشباب منذ انقلابهم اللعين، ولعنة الله على أذيالهم الذين زينوا لهم ذلك، ولعنة الله على العالم المتواطئ المنافق الذى رضى بتلك الجرائم.
الأب والأم والابنتان.. عائلة مكلومة، يخيم عليها الصمت والحزن؛ فما إن تنظر الصغيرة إلى صورة (محمد) حتى تنفجر فى البكاء، فتصرخ أختها لبكائها، فتنهار الأم، فيصبرهن الأب؛ مذكرًا إياهن بأن تلك كانت أمنيته، معددًا فضل الشهداء، مشيرًا إلى «تضحيات الطريق»، و«الفريضة الماضية»، و«عز الدنيا والآخرة» فيهدأن، ثم يستغفرن الله، ويدعين لـ «نور العين»، الحافظ لكتاب الله، الفائق فى دراسته، المهموم بقضايا أمته.
عاد (صالح) إلى أعماله بعد شهرين، متثاقل الخطي، مهمومًا، لكن فى داخله -رغم حزنه الواضح- حلمٌ جميل، وأمل فسيح.. لقد فرغ قبيل فجر اليوم من تلاوة سورة يوسف فى صلاة الليل؛ فكأن طاقة من رحمة الله قد استغرقت كيانه كله وأفاضت على الكون من حوله، فأسر إلى امرأته بهذا الفيض العجيب، فوجد عليها السكينة نفسها.. تعانقا، بكيا بكاء الواثق بربه، الراضى بقضائه، القانع بعطائه.
أربعة أشهر مرت على ذلك الحلم الجميل الذى داعب فؤاد (صالح) وذلك العناق الذى كان بينهما؛ وإذا باتصال من زوجه وابنتيها من عيادة طبيبة النساء: مبروك يا صالح، رزقنا الله بولدين اثنين.
أضف تعليقك