• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

 كثيرون هم الذين غرقوا في تفاصيل الحدث السعودي خلال الأيام الماضية، بعد أن اقدم محمد بن سلمان على اعتقال العشرات من الأمراء ورجال الأعمال والشخصيات المتنفذة في الحكم السعودي بضربة واحدة. 

جاءت هذه الخطوة بعد أشهر قليلة من إزاحته ابن عمه محمد بن نايف، الرجل القوي، الذي ورث وزارة الداخلية عن أبيه الأمير نايف، إحدى أضخم أذرع الحكم في المملكة، وبعد تنحية الأمير مقرن من ولاية العهد مباشرة بعد وفاة الملك عبد الله.

ومن ثم دخل الشاب المغامر سلم الوراثة عبر بوابة ولي ولي العهد. ثم تقدم خطوة أخرى باتجاه ولاية العهد بعد إزاحة الأمير محمد بن نايف.

واليوم يحث الخطى باتجاه الملك مباشرةً خلفا لوالده سلمان، بعد إزالة آخر العقبات، ممثلة في الأمير متعب بن عبد الله الذي كان يشرف على جهاز الحرس الوطني، الذي يضاهي في قوته الجيش السعودي نفسه، وقد اصطنعه الملك عبد الله في خمسينات القرن الماضي لمواجهة موجة الانقلابات العسكرية في المشرق العربي، ثم خطر الثورة الإيرانية بحرسها الثوري.

ويتكون هذا الجهاز الضخم من رجال القبائل الأشداء والموالين للملك عبد الله، والد متعب، حين كان في موقع ولاية العهد في عهد فهد.  

وغير بعيد من المملكة، قبل أربع سنوات، في مشهد أكثر درامية وفجائية، انتقل الرئيس المصري محمد مرسي من القصر الرئاسي مباشرة إلى معتقل سري، بعد أن أطاح به وزير دفاعه وقتها عبد الفتاح السيسي.

هذا السيناريو تكرر في أكثر من موقع في المشرق والمغرب العربيين، في سوريا والعراق واليمن والجزائر وتونس وليبيا وغيرها، فرأينا الزعماء ينتقلون بسرعة البرق من أعلى هرم السلطة إلى حبل المشانق، وفِي أحسن الحالات إلى المعتقلات والمنافي وخلف جدران البيوت، تحت الإقامة الجبرية.  

فلم تكد ثورة 1952 تقطف أولى ثمارها بإسقاط النظام الملكي وإعلان قيام جمهورية مصر العربية بقيادة اللواء محمد نجيب، حتى أطاح أحد ضباط التنظيم، جمال عبد الناصر، بالرئيس نجيب ووضعه تحت الإقامة الجبرية في 1954.

وفِي سوريا، ما لبث نور الدين الأتاسي وصلاح جديد بعد انقلابهما على أديب الشيشكلي و صعود حزب البعث إلى الحكم في 1963، أن وجدا نفسهما سجينين، بعد أن أزاحهما رفيقهما في الحزب حافظ الأسد وأعلن نفسه رئيساً لمجلس الوزراء، ثم رئيساً لسوريا في 1970.

وفِي العراق المجاور، انقلب حال اللواء احمد حسن البكر رأسا على عقب بعد أن أجبره نائبه صدام حسين على الاستقالة من قيادة حزب البعث ورئاسة الوزراء في 1979 بحجة إصابته بمرض الباركنسون.

ومن قيادة الثورة ورئاسة الجمهورية، وجد المناضل أحمد بن بلة نفسه معتقلا (في وزارة الدفاع ثم منقولا بين ثكنات عسكرية) زج به إليها رفيق دربه الهواري بومدين في 1965. 

وكان محمد مزالي يتهيأ لخلافة العجوز بورقيبة منتصف الثمانينات حين وجد نفسه هاربا، متنكرا، متسللا عبر الحدود الجزائرية.

ما يبرزه المشهد السعودي اليوم هو أن السياسة في هذه المنطقة من العالم بمثابة السير على خط النار والمقامرة بالنفس والمال وكل شيء.

من اليسير جدا في مغامرة الحكم هذه أن يهوي المرء من أعلى قمة النفوذ والمجد إلى عمق الهاوية السحيق، فيلفي نفسه بين عشية وضحاها سجينا، أو طريدا شريدا، أو منزوع المال والرزق.. هذا أن لم ينته به الحال قتيلا..

ولا أصدق من قول أبي فراس الحمداني في حال العرب مع السلطة

ونحن أناس لا توسط بيننا
لنا الصدر فدون العالمين أو القبر

وربما يبدو هذا المشهد أكثر كثافة في بعض البلاد العربية التي يدار فيها الحكم على طريقة القرون الوسطى، حيث تجتمع السياسة والمال والجاه في يد رجل واحد، أو في أحسن الأحوال في أيدي نخبة محدودة من الناس، من دون حسيب أو رقيب.

ومن تتوفر له فرصة الحكم لا يتردد في الفتك بمن حوله، فالحكم عنده استحقاق فردي بلا منازع. 

تذكر كتب التاريخ صورا عديدة للعسف والانفراد بالحكم بقوة السيف والبطش، ومن ذلك مثلا أن الحجاج بن يوسف حينما تولى الحكم في العراق أمسك المصحف وقبّله وقال "هذا فراق بيني وبينك من اليوم"..

ثم ما لبث أن أعمل السيف وأثخن في أهل العراق وكل من رأى فيه خطرا محتملا على حكمه. 

وكذا فعل الحاكم محمد بن يوسف في الأندلس، إذ أوغل في القتل والتنكيل بأقاربه وكل منافسيه ليستفرد بأمر الملك.

وقد جرى الأمر ذاته في المرحلة المتأخرة بين سلاطين بني عثمان، حيث كان من المألوف معاقبة أحد الرعايا أو الطامحين في الحكم بفقء إحدى عينيه أو قطع أطرافه أو خصيه.

وكان بايات تونس يعمدون إلى تجريد خصومهم والمغضوب عليهم من أموالهم وممتلكاتهم ويدفعونهم إلى التسول ومد اليد ويسمون ذلك بالنكب.

وقد ذكر ابن خلدون في مقدمته أشكالا شتى من صنوف التنكيل بالمنافس، كجدع الأنوف وفرع الآذان وغيرها من أشكال قهر المتنازعين من أهل العصبية المقاسمين في اسم الملك..

يبدو البلاء اليوم أشد وأعظم مما كان عليه في الماضي القريب أو البعيد، فقد كان السلطان يمارس الجور والتسلط، ولكن طبيعة السلطة في العهد القديم كانت بالضرورة موزعة، وليس متاحا فيها الاستفراد بكل شيء.

أما حكام اليوم فقد أتاحت لهم التقنيات الحديثة والتطورات الحاصلة في أدوات القوة والرقابة، التدخل في الحياة الخاصة والعامة، فغدا مصير الناس بأيديهم، خاضعا لأهوائهم وقراراتهم. 

أوروبا التي عانت على امتداد القرون الوسطى من شرور التسلط الديني والسياسي، وعرفت ضروبا شتى من التقتيل والتعذيب والتنكيل المشرعن دينيا، تمكنت في نهاية المطاف من السيطرة على آفة التسلط وكبح جماح الحكام نحو البطش.

كان السؤال الرئيسي الذي راود رجال الفكر والفلسفة في العصر الحديث، منذ القرن السابع عشر: كيف يمكن الحد من شرور السياسة وتقييد سلطة الحاكم؟

وفي هذا الإطار، تبلورت فكرة الدساتير وتوزيع السلطات، قبل أن يتشكل مفهوم التداول السلمي على السلطة فيما بعد، وفق الآليات الديمقراطية المعهودة.

ولذا أمسى الحاكم في الغرب الحديث عبارة عن مسؤول سام يؤدي وظيفته، ثم ما يلبث أن يولي إلى بيته سالما، ليحل محله آخر منتخب، دون خطر السجن أو النفي أو القتل.  

وجه الخطورة يتمثل في كون الحكم في العالم العربي مازال يمارس وفق منهج الاختطاف والانفراد، بلا روادع أو ضوابط تذكر، ومن يمسك زمام الأمر لا يتردد لحظة في الفتك بمنافسيه وخصومه، بل أقربائه وأبناء عمومته، على نحو ما نشهد اليوم في المملكة العربية السعودية. 

لقد بشرت ثورات الربيع العربي التي انطلقت سنة 2011 بإدخال العالم العربي بوابة العصر الحديث والقطع مع فردية الحكم، عبر آلية انتخاب الحكام والبرلمانات وسن الدساتير الديمقراطية وفرض هامش واسع لحرية الإعلام والصحافة، وغيرها من الآليات الديمقراطية.  

إلا أنه يبدو اليوم، وبعد إجهاض الحلم والسطو عليه، وكأن قدر العالم العربي أن يسلم مصيره لحكام مغامرين ومقامرين، يتلاعبون به وفق نزواتهم وأهوائهم.

ربما بقيت تجربة تونس، رغم هناتها وعثراتها، استثناء نسبيا من هذه القاعدة العامة، إذ نجحت إلى الآن في تثبيت بعض الآليات الديمقراطية.

فإن كتب لها الاستمرار، بثت فينا بعضا من الأمل المتلاشي: بأن ترويض عفاريت الحكم ومردة السلطة قد يكون متاحا في هذه الرقعة المنكوبة من العالم. 

أضف تعليقك