أيدت محكمة النقض المصرية (أعلى محكمة لمراقبة تطبيق القانون فقط)، مؤخرا، أحكاما بالإعدام على متهمين في ما عرف بقضية التخابر مع قطر، ثلاثة منهم حضوريا: أحمد ثابت (معيد جامعي)، ومحمد كيلاني (مضيف طيران)، وأحمد عفيفي (من ثوار يناير)، وثلاثة آخرين غيابيا: إبراهيم هلال (صحفي ورئيس قطاع الأخبار بقناة الجزيرة)، وأسماء الخطيب (مراسلة صحفية)، وعلاء سبلان (أردني)، فارتفع بذلك عدد من يقبعون في سجون الانقلاب ينتظرون تنفيذ حكم الإعدام؛ لأكثر من 20 شخصا، هذا بخلاف من تم تنفيذ أحكام الإعدام فيهم بالفعل وهم أكثر من سبعة!
"صمت رهيب"
تصدر هذه الأحكام وتنفذ على مدار سنوات الانقلاب الأربع، وسط صمت مصري وعربي ودولي عجيب ورهيب، وغياب لأي ردة فعل في أي اتجاه، بينما رسالة الانقلاب والمناخ الذي تتم فيه المحاكمات السياسية بامتياز؛ يقول: لن نسمح في هذا البلد بصوت معارض أو مطالب بالتغيير، ومن لم يمت في مذابح رابعة وأخواتها، ومن لم يُقتل دون محاكمات في التصفيات الجسدية خارج إطار القانون، ومن لم يمت بسبب الإهمال الصحي وسوء أوضاع السجون، فإن مصيره معلق بأحكام دوائر قضائية معينة من السلطة التنفيذية التي بسطت سيطرتها على القضاء (إعمالا لمبدأ الفصل بين السلطات)!!
الناس في وطني خمسة قتلى، ذكرت منهم أربعة، ومن نجا من تلك الأربعة المجرمة، سيقع حتما في براثن الموت قهرا وديكتاتورية وتضييقا في الأقوات وكبتا للحريات، وهذا هو الصنف الخامس.. لك الله يا مصرنا الحبيبة!!
ملاحظة: قضى في مذبحة رابعة والنهضة وغيرهما أكثر من ثلاثة آلاف! وفي التصفيات الجسدية ما يقرب من 200، منهم 54 كانوا مختفين قسريا، وبسبب سوء أوضاع والإهمال الطبي داخل السجون توفي حوالي 400، ومن ينتظرون تنفيذ الإعدام حاليا (أحكام واجبة النفاذ) 26 آخرين.
خَرقَ جدار الصمت مؤخرا قرار الإنتربول الدولي برفع أربعين اسما من النشرة الحمراء (المطلوبين)، وفي مقدمتهم الإمام العلامة المصري يوسف القرضاوي (90 عاما ومحكوم عليه غيابيا بالإعدام). وبلغنا في محبسنا – على شح ما يصل إلينا من أخبار نتساقطها في المحاكمات؛ لأننا محرومون من متابعة أي جرائد أو إذاعات أو زيارات للأهالي - أن حيثيات هذا القرار مرتبطة بكون الأحكام الصادرة بحق هؤلاء سياسية، ولم تصدر عن قضاء مستقل! والكلام للإنتربول.. فتحية لمن لا يزال يحرص على تلمس الحقيقة المجردة وسط ركام الأباطيل التي يروجها الانقلاب وأعوانه. ولعل منظمة العفو الدولية أصدرت بيانات سابقة ولاحقة تدين تلك الأحكام، بدأت قبل سنوات إزاء حكم يدل على درجة الشذوذ والغرابة؛ بإعدام 800 متهم في دائرة بمحافظة المنيا بصعيد مصر.
ويُحاكم المعارضون للانقلاب في مصر أمام عشر دوائر قضائية تتناوب عليهم، يسمونها "دوائر الإرهاب"، وهي دوائر أصدر قرار تشكيلها شخص واحد، هو رئيس محكمة استئناف القاهرة. وقد يحاكم المتهم أحيانا أمام الدائرة نفسها في عدد من القضايا (د. محمد البلتاجي حوكم حتى الآن أمام القاضي شيرين فهمي في أربعة قضايا مختلفة)، وتتم المحاكمات وسط تحريض إعلامي منذ بيان 3 يوليو للانقلاب، حيث تم إسكات أصوات المعارضة، وحجبت أقلام وأصوات الكثير من الصحفيين، مع اعتقال بعضهم.
تجري هذه المحاكمات دون أية ضمانات دستورية وقانونية داخل مقرات الشرطة (أكاديمية الشرطة – معهد أمناء الشرطة)، وفي أقفاص زجاجية تحول دون تواصل المتهمين مع قضاتهم أو محاميهم أو أهاليهم. كما يتم منع المحامين من زيارات المتهمين بقرار الأمن، حتى لو كانت المحكمة قد صرحت بالزيارة!!
ويحرم المتهمون من الأوراق والأقلام والمراجع القانونية التي تعينهم على إعداد دفوعهم القانونية (خاصة المحامين منهم). وفي أقل المرات التي يضطر الأمن اضطرارا، بضغط القاضي، إلى إدخال الأقلام والأوراق للمتهمين؛ تدخل لتصَادر بعد ساعات قليلة من الزنازين، أو في أول تفتيش على أقصى تقدير!
تصدر غالبية الأحكام استنادا إلى محاضر تحريات الشرطة (وهو ما سبق أن أهدرته محكمة النقض في أحكام تاريخية مضت)، كما لا يسمح لشهود النفي!!
وتمارس النيابة العامة التي هي بالأساس ضمير المجتمع دورا عجيبا، إذ تتراخى في تحقيق بلاغات الضحايا (حتى إذا أحيلت إليها من قبل المحكمة في أثناء الجلسات)، بينما تسارع في تجهيز القضايا التي تعدها الشرطة وتعتمد على محاضر التحريات فقط، لتطلب في النهاية من المحكمة إصدار أحكام بالإعدام
وهل هناك مثال صارخ لهذا العوار أكثر مما حدث في المحاكمة الأولى للقضية المعروفة بغرفة عمليات رابعة، حين طلبت النيابة إعدام 14 متهما؟ والأعجب أن القاضي وافقها على ذلك، ثم جاء نقض الحكم وأعيدت المحاكمة، فألغيت أحكام الإعدام جميعها، وقُضي ببراءة عدد منهم (تأمل معي.. من إعدام إلى براءة!) وأحكام مختلفة على الآخرين.
ويتساءل كثيرون: أين المصريون؟ ألم يئن الوقت لاستفاقة مصرية شعبية وقضائية وحقوقية وسياسية وإعلامية لوقف نزيف الدم المراق؟ ألم يدرك المصريون حكمة المثل السائر "أكلت يوم أكل الثور الأبيض"؟ ألم يعِ الجميع أن الانقلاب هو سبب ما آلت إليه البلاد من تدهور قيمي، وانحلال اجتماعي، وانسداد سياسي، وركود اقتصادي، وتضخم وغلاء فاحش؟ وأنه تسبب في انسداد شرايين المجتمع المصري الذي يكاد يصاب بالسكتة القلبية أو الجلطة الدماغية لا قدر الله؟
ويتساءل آخرون: أين الشعوب والمنظمات الحقوقية العربية؟ وأين اتحاد المحامين العرب؟ وأين المنظمة العربية لحقوق الإنسان؟ وأين انتفاضة الإعلام العربي في الدول الحرة التي تتمتع بمقدار معقول من الحرية؟ أين المحامون البارزون الذين كانوا يوما ما ملء السمع والبصر، بصولاتهم وجولاتهم في الندوات والمؤتمرات والملتقيات السياسية؟ ألم يأتهم نبأ انقلاب مصر؟ ما بال أصواتهم حبست فلا يسمع لهم صوت؟ لماذا لا يشكلون وفودا قانونية وحقوقية تصل إلى مصر لتراجع الأحكام وتقوي عزائم نظرائهم المصريين وتتعرف على خلفيات القضايا وظروفها؟ ولديهم من الوسائل والإمكانات في حال منعهم ما يمكنهم من التحرك دوليا من أجل هؤلاء الأبطال الذين ينتظرون أحكام الإعدام.. فهل يفعلونها، خاصة أن قائد الانقلاب يصدق على جميع الأحكام عادة ويؤجل التنفيذ فقط من أجل الابتزاز السياسي؟ ألا تتذكرون الأحكام السابقة التي صدرت بحق الرئيس محمد مرسي وقيادات الإخوان بالإعدام، وبقي الجميع أكثر من عامين يرتدون البدلة الحمراء، ويعيشون شعور من ينتظر التنفيذ في كل لحظة، ويعاملون معاملة مجحفة مثل دوام القيود "الكلابشات"، ومنع الزيارة، وتجريد الزنازين من أمور أساسية لاستمرار الحياة بها، والمبالغة في العزل عن باقي المحبوسين و.. و.. حتى نقض الحكم وإعادة المحاكمة من جديد؛ أمام دائرة من دوائر الإرهاب وينتظرون الأحكام نفسها؟!
ويتساءل هؤلاء وأولئك: وأين المجتمع الدولي كله.. السياسي والقضائي والشعبي؟ ولماذا هو صامت هذا الصمت الرهيب؟ هل تتم التضحية بالمبادئ والقيم العليا التي طالما تغنى بها العالم أزمانا، منذ إعلان نيلسون الشهير وميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان وباقي الاتفاقات الدولية؟ يتم التضحية بذلك كله لقاء مصلحة اقتصادية ضيقة هنا أو هناك؟! أم من أجل توظيف الانقلاب الدموي في سياسة فاشلة لحماية أمن الكيان الصهيوني تحقيقا لإستراتيجية أمريكية أوروبية؟!
لم يسمع أحد بيانا من مجلس الأمن أو الأمين العام للأمم المتحدة، بل على عكس ذلك، يترأس مندوب الانقلاب لدى المؤسسة الدولية؛ مجموعة مكافحة الإرهاب!! يا للعجب.. الانقلاب الذي صنع الإرهاب في مصر ورعاه عندما أهدر الإرادة الشعبية، وصادر حق المصريين في التعبير عن التظاهر السلمي والتصويت الحر، ثم تحول ليساعد في تحقيق الدور الخسيس ذاته في أقطار شقيقة مثل ليبيا وسوريا وغيرها!
وأختم مقالي برسالة إلى الأحباب ورفاق درب النضال السلمي ضد الانقلاب، وإلى أهلهم الصابرين المحتسبين.. يقول الله تعالى: "ولاتهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين* إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله، وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين* وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين".. ولن نمل من انتظار النصر بعد القرح والشهادة والتمحيص.
ولئن كانت الأصوات المناصرة في مصر وخارجها خافتة لسبب أو لآخر، فثقوا في أنفسكم، وأنكم لستم وحدكم، وأن معكم الملايين في مصر وخارجها من أنصار الحق والعدل.. نعم قد يحتاجون لرص صفوفهم وترتيب أوراقهم وتفعيل أدواتهم في نضالهم السلمي ضد الانقلاب، لكنهم أبدا لا يقصرون ولا يتخاذلون.
وإن الله الذي جمع قلوبنا على محبته وطاعته، وجمع صفوفنا في ساحات العمل ومقاومة الظلم والفساد منذ عقود، وجمع جهودنا في ثورة 25 يناير في ميدان التحرير، ثم جمعنا في ميداني رابعة والنهضة وغيرهم ضد الانقلاب، لقادر إذا اطلع على هذه القلوب فوجد فيها رغبة صادقة في العمل والصمود أن يؤلف بينهم، وأن يوحد بين صفوفهم، ويمدهم بمدد من عنده.. والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
----------
* نقلا عن عربي 21
أضف تعليقك